إني أحلم بأن أستيقظ ذات يوم على وطن حقيقي، يكون انتماء المواطن فيه للوطن من قبل أن يكون للقبيلة، أو للجهة ، أو للعرق، أو للشريحة.
الأحد، 28 أغسطس 2011
سقوط الفوضى !!
لا شك أن عملية إسقاط الفوضى هي أصعب بكثير من إسقاط النظام، ولا شك أن الليبيين الذي لم يرفعوا ـ عكس غيرهم ـ شعار الشعب يريد إسقاط النظام، كانوا يدركون جيدا بأن مهمتهم أصعب، وبأن ذلك الشعار الرائع لا يصلح شعارا لثورتهم، لأنه لم يكن في بلدهم نظام ليطالبوا بإصلاحه أو إسقاطه.
فلم تكن الثورة الليبية تسعى لإسقاط النظام، كما هو الحال في تونس، وفي مصر، وفي غيرهما من البلدان العربية، حيث كانت توجد هناك أنظمة تحكم، ويمكن إسقاطها.
ففي ليبيا لم يكن هناك نظام، بل كانت هناك فوضى عارمة، حكمت البلاد لأكثر من أربعة عقود. فوضى كانت تقرر كل شيء، وتسير كل شيء، وتتحكم في كل شيء، وتجرب كل شيء، وتغامر بكل شيء، وتجادل في كل شيء، ولا تتورع عن أي شيء.
وفي ليبيا كانت الفوضى "العظمى"، للقائد "العظيم"، مؤسس الجماهيرية"العظمى"، وقائد ثورة الفاتح "العظيم"، ومجري النهر "العظيم" هي التي تتحكم في كل شيء، بمساعدة الأبناء، والذين لم تكن لهم وظائف رسمية، إلا أنهم رغم ذلك كانوا يرتجلون أخطر القرارات، ويتحكمون في مصائر الليبيين.
والغريب أن القائد "العظيم"، الذي كان يتحكم في كل شيء، لم يكن يعتبر نفسه رئيسا لليبيا حتى يستقيل. فمن يا ترى كان رئيس ليبيا خلال العقود الأربعة الأخيرة؟ الليبي الوحيد الذي تبرأ علنا من الرئاسة هو القذافي، أما بقية الليبيين فإنهم سيبقون رؤساء محتملين ما لم يتبرؤوا هم أيضا من الرئاسة.
لقد كان ملك ملوك إفريقيا، وعميد الرؤساء العرب، وخليفة المسلمين، والذي لم يكن رئيسا لليبيا، على حد زعمه، غريبا في كل شيء. غريبا في ملبسه، وفي مأكله ومشربه، وفي أفكاره، وفي مواقفه، وفي تصريحاته، وفي نظرياته التي كان يجربها على الليبيين وكأنهم فئران مخابر. وكان أيضا غريبا في خطاباته التي كان بعضها يمتد لساعات، حتى يسقط المترجم مغشيا عليه، كما حدث في الأمم المتحدة. وكان بعضها الآخر ينتهي من قبل أن يبدأ، كما هو الحال في خطابه الأول بعد ثورة 17 فبراير المجيدة، والذي ألقاه من داخل سيارة مصفحة، ومن تحت مظلة سوداء كبيرة، لكي يُشعر الشعب الليبي بأنه لا يزال في ليبيا، وبأن السماء تمطر في تلك اللحظات بماء منهمر.
وفي ليبيا لم تكن هناك دولة، ولم يكن هناك جيش، ولم يكن هناك نظام، لم يكن هناك إلا فوضى عارمة. وفي ليبيا كان ينادى باسم القذافي من قبل أن ينادى باسم الدولة الليبية، لأن الدولة لم تكن إلا عزبة يتصرف فيها القذافي وأبناؤه كيفما شاؤوا.
فبددوا ثرواتها ذات "الشمال" وذات الشمال، ووصل بهم تبديد الثروة إلى الإنفاق على الحملات الانتخابية لبعض المرشحين في الدول الغربية، كما هو الحال مع ساركوزي، وكما شهد بذلك القذافي بنفسه، في لحظة عتاب بائسة لساركوزي. وكأنه كان يريد أن يقول لساركوزي، ألم أفتح لك خزائن ليبيا حتى من قبل أن تكون رئيسا، فَلِم تريد التخلص مني اليوم؟
وفي ليبيا لم يكن هناك جيش يمكن أن ينحاز للثورة كما حدث في تونس ومصر، بل كانت هناك عصابات يقودها القذافي وأبناؤه وبعض مقربيه. وفي ليبيا لم تكن هناك أحزاب حتى ولو كانت مجرد أحزاب ورقية، كما هو الحال في تونس وفي مصر وحتى في سوريا.
وفي ليبيا لم يكن هناك مجتمع مدني يذكر، بل كانت هناك منظمتان تختزلان كل المجتمع المدني، إحداهما يترأسها الابن المدلل، والثانية تترأسها الابنة المدللة.
وفي ليبيا لا يوجد دستور ولا تسير الأمور هناك وفق أي نظام مهما كان شكله، بل إن الأمور كانت تسير وفق فوضى عارمة، لا يتحكم فيها إلا مزاج القذافي، الذي كان يتقلب كثيرا، وبسرعة عجيبة ومثيرة في نفس الوقت.
وفي ليبيا ظل الليبيون يحلمون ولأربعة عقود وزيادة بأن يكون لهم نظام يحكمهم، وثاروا ليكون لهم نظام كباقي شعوب العالم، ثم بعد ذلك سيحق لهم ـ مستقبلا ـ أن يفكروا في محاسبة النظام الوليد، أو في إسقاطه إذا ما انحرف عن الطريق.
والليبيون الذين عاشوا في فوضى عارمة لأربعة عقود، كانوا أكثر صبرا من غيرهم من الشعوب. فإذا كان المصريون قد ساءهم أن رئيسهم الذي ثاروا عليه قد عايش أربعة من رؤساء أمريكا، فإن الرئيس الليبي الذي ظل ينكر أنه رئيس قد عايش أربعة من رؤساء مصر.
وإذا كان الرئيس المصري قد حكم شعبا يقترب عدد سكانه من تسعين مليونا بثروات محدودة، وإذا كانت الثروات التونسية أيضا قليلة، مما قد يعطي مبررات، حتى ولو كانت واهية للتخلف الحاصل هناك. فالحال في ليبيا كان عكس ذلك تماما، فالشعب كان أقل من حيث تعداد السكان، وكانت ثرواته أضخم، ومنح للقائد فرصة امتدت لأربعة عقود وزيادة، ومع ذلك ظل هذا الشعب الصبور أكثر تخلفا من كل جيرانه العرب.
يقول القذافي بأنه أنفق أموالا طائلة من تلك الثروة الهائلة، على التسلح، ومع ذلك لم يستطع السلاح الليبي أن يسقط طائرة واحدة للناتو، ولم يستطع هذا السلاح أن يحمي القذافي الذي لجأ في النهاية إلى الجن لكي يحموه من خلال نداءات الاستغاثة للجن، والتي كان يطلقها "يوسف شاكير" في قناة الجماهيرية، يا ترى أين هو "يوسف شاكير" الآن؟
وكان القذافي، في الوقت نفسه، يوجه نداءات استغاثة للشعب المسلح، بعد اختفاء الجيش المسلح. ومن المفارقات أن شوارع طرابلس كانت تزداد وحشة وخلوة، كلما دعا القذافي الشعب للزحف وللخروج بالملايين إلى الشوارع، بالمناسبة عدد سكان ليبيا لا يصل إلى سبعة ملايين.
ويقول القذافي بأنه أنفق من تلك الثروة الضخمة على التعليم، ورغم ذلك فكان الليبيون ـ خلال العقود الأربعة ـ يرسلون أبناءهم للتعلم في مصر أو تونس، وفي أحسن الأحوال يستجلبون أساتذة من تلك الدول لتعليم أبنائهم في ليبيا، إذا ما عجزوا عن إرسالهم لدول الجوار.
ويقول القذافي بأنه أنفق على الصحة، رغم أن المريض الليبي كان يضطر ـ في أغلب الحالات ـ للذهاب إلى دول الجوار الأقل ثروة للعلاج هناك.
لم يكن في ليبيا نظاما، بل كانت هناك فوضى، وهذا ما كتبته منذ ما يزيد على سنتين، في مقال نشرته تحت عنوان "عن أي مفكر تتحدثون؟"، بمناسبة الصلاة خلف "المفكر الإمام" في الملعب الأولمبي، والتصفيق البائس له في قصر المؤتمرات، من طرف النخبة الموريتانية، رغم أنه كان ينتقد نظام الحكم في موريتانيا، بانقلاباته وبديمقراطيته. فلم يسلم منه رئيس منقلب أو منقلب عليه أو منتخب. ومعلوم أن نظام الحكم في موريتانيا، على علاته، يمكن اعتباره نظاما متقدما، إذا ما قورن بفوضى معمر، لذلك فلم يكن من المقبول أن ينتقدنا معمر لا في ذلك المجال، ولا في أي مجال آخر.
والغريب أن هذا المعمر الذي ظل يبدد تلك الثروة الهائلة، والذي فشل في بناء دولته، وتنمية مجتمعه، كان يصف شعبه بالجرذان، وكان على استعداد كامل لأن يبيد عشرات الآلاف، من أجل أن يواصل عبثه بالثروة الليبية، وذلك قبل أن يسلم مفاتيح خزائنها لأكثر أبنائه حماقة وغطرسة.
والأغرب من ذلك كله، أنه لا زال هناك من يمتدح هذا المعمر، وأنه لازال هناك من يبسط الأمور بطريقة عجيبة، ويقول بأن المعمر سيبقى، في كل الأحوال ، أفضل بكثير من الناتو الذي لم يتدخل في ليبيا إلا لمصلحته.
لا أعتقد بأنه يوجد في عالمنا اليوم من يستطيع أن يقول بأن تدخل الناتو كان لوجه الله.
ولا أعتقد كذلك بأن هناك من كان بإمكانه أن يقول بأن تدخل الناتو ضد جيش جمهورية صرب البوسنة، في العام 1995، كانت لسواد أعين مسلمي البوسنة والهرسك.
ومع ذلك فكانت حملة الناتو ضد الصرب تستحق الترحيب، لأنها أنقذت مسلمين أبرياء، رغم البغض المتجذر في نفوس غالبية المسلمين، لهذا الحلف الذي ارتكب في حقنا كعرب وكمسلمين جرائم كثيرة.
هذه الحملة التي قام بها الحلف في ليبيا تستحق هي أيضا الترحيب، لأنه لولاها لأباد المعمر مدنا كاملة، ولحكم هو وابنه ليبيا لعقود أخرى. لم يكن هناك من خيار، فإما أن تباد مدن كاملة، أو نقبل بتدخل الناتو، وكان الخيار الثاني أسلم.
أما مصالح الناتو في ليبيا فهي معروفة، وهي مصالح قد لا تتناقض مع المصالح الليبية في الوقت الحالي. فالناتو الذي لم يتخل عن القذافي إلا في آخر لحظة، لا يريد دولة على الضفة الثانية للمتوسط تعيش حربا أهلية، ستنعكس سلبا على دول الحلف (الهجرة السرية، الإرهاب) . كما أنه يسعى لتحقيق مصالح اقتصادية، ودول الغرب معروفة بالجشع، وتتحرك دائما للمصالح الاقتصادية، أكثر من أي مصالح أخرى. ولا شك أن الدول التي شاركت في الحملة كانت أعينها على النفط الليبي، وعلى عقود إعادة الإعمار. ولهذه الدول الحق ـ كل الحق ـ في أن تحصل على اتفاقات وعقود، في ليبيا الجديدة، بدلا من روسيا والصين وباقي الدول التي أيدت المعمر على حساب الشعب الليبي، مما جعلها تفقد مكانتها لدى المواطن العربي الثائر، والذي خذلته كثيرا تلك الدول، في ربيع الثورات هذا، بوقوفها المستميت مع الأنظمة العربية الدكتاتورية.
ومهما يكن من أمر، فإن أي تبديد للثروة الليبية، في هذا العهد الجديد، ومهما كان حجمه، فلن يشكل نسبة ضئيلة مما كان يحدث في ظل الفوضى التي عاشتها ليبيا خلال الأربعة عقود الماضية.
تصبحون على نظام ديمقراطي في ليبيا ......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق