إني أحلم بأن أستيقظ ذات يوم على وطن حقيقي، يكون انتماء المواطن فيه للوطن من قبل أن يكون للقبيلة، أو للجهة ، أو للعرق، أو للشريحة.
الأحد، 12 يونيو 2011
اغتيال الفرص
لا أعتقد أن هناك بلدا أضاع رؤساؤه وساسته ومثقفوه ومواطنوه العاديون من فرص التغيير مثل ما أضعنا نحن. لقد مرت بنا فرص عديدة للتغيير، وكنا دائما نُسَخر لتلك الفرص من يطلق عليها "رصاصة الرحمة"، و يغتالها وهي لازالت في مهدها. ففي مرات كان الرئيس يتكفل بإطلاق الرصاصة القاتلة، وفي مرات أخرى كان المجتمع يقيض لها زعيما سياسيا يغتالها، منفردا في بعض الأحيان، وبمشاركة من المجتمع في أحايين أخرى، ليضيع بذلك هدرا "دم" الفرصة التي تم اغتيالها.
هي إذن فرص عديدة تم اغتيالها، سأحاول ـ تمشيا مع آخر صرعة في "موريتانيا الجديدة" ـ تحديد خريطة طبوغرافية لأماكن دفنها، مع نبش بعض القبور، التي دفنت فيها تلك الفرص، وذلك لتحديد الجناة الحقيقيين، الذين ارتكبوا تلك الجرائم البشعة، فاغتالوا فرصا بريئة ومسالمة بدم بارد.
ونظرا لصعوبة إعداد خريطة طبوغرافية لكل ضحايا الفرص التي تم اغتيالها منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا، نظرا لصعوبة ذلك، فإني سأكتفي هنا بنبش قبور الفرص التي تم اغتيالها بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لفرسان التغيير، والتي تمر علينا ذكراها الثامنة في هذه الأيام.
(1)
في يوم الثامن من يونيو من العام 2003 ظهرت فرصة للتغيير بعد طول انتظار، لم تكن ملامح تلك الفرصة واضحة تماما، وذلك لأن من دفع بتلك الفرصة إلى الظهور، لم يكن قد بلور مشروعا واضحا للتغيير، وهو ما سيظهر أثناء المحاولة الانقلابية نفسها، والتي بدا فيها الكثير من الارتجال، رغم أن القادة الشجعان لتلك المحاولة الانقلابية قالوا بأنهم خططوا لها قبل ذلك بمدة غير قصيرة، إنه التخطيط للارتجال.
وسيظهر جليا عدم وضوح الرؤية في المشروع التغيري للفرسان بعد انقلاب الثالث من أغسطس، حيث تشتت الفرسان بسرعة رهيبة بين التشكيلات السياسية، رغم أن طائفة كبيرة من الموريتانيين تعاطفت معهم، واستقبلتهم بحفاوة، وكانت على استعداد لمناصرتهم ولدعمهم، وذلك قبل أن تكتشف بأن الفرسان لا يختلفون عن غيرهم من الطبقة السياسية، حيث تطغى المصلحة الشخصية على المصلحة العامة في العمل السياسي.
ورغم أن ملامح فرصة الثامن من يونيو لم تكن واضحة تماما بسبب عدم وضوحها في أذهان من قادوها، إلا أنه مع ذلك يمكن القول بأن الشعب الموريتاني هو الذي اغتال تلك الفرصة، لأنه ظل يتفرج ليوم أو ليومين كاملين على ما يجري في البلد من أحداث عظيمة، وكأنه ليس معنيا بها.
(2)
في يوم 25 من مارس 2007 تم إطلاق رصاصة طائشة على فرصة للتغيير واضحة الملامح، هذه المرة. وكانت من أكثر الفرص وضوحا وبروزا. ففي ذلك اليوم فوجئ الموريتانيون بزعيم عرفوه يخلق الفرص ولا يغتالها، فوجئوا به يخرج سلاحه ( شعبية متماسكة جدا في ذلك الوقت) ثم يصوبه وسط استغراب وذهول الجميع، صوب الفرصة النادرة التي ظهرت في ذلك اليوم.
كان المشهد مرعبا ومفزعا بل ومقززا لأنه جاء من مناضل كبير، كانت تعد "صغائره" القليلة "كبائر" لمكانته عند الناس، فإذا به في ذلك اليوم يفاجئ الجميع بارتكاب كبيرة سياسية، ربما تكون من أكبر الكبائر السياسية التي ارتكبت في حق ديمقراطيتنا الفتية.
حاول البعض أن يبرر عملية الاغتيال تلك التي تمت بدم بارد، بحجج واهية، فادعى أن رئيس التحالف كان مجبرا على ذلك، لأنه كان يعلم أن المجلس العسكري سينقلب على نتائج الانتخابات، إذا ما فاز خصم المجلس في الشوط الثاني. والحقيقة أن المجلس لم يكن في ذلك الوقت على قلب عقيد واحد، ولم يكن بإمكانه إطلاقا أن ينقلب على النتائج، مهما كانت طبيعتها، لأن المجلس منقسم، ولأن العالم في تلك اللحظة كان يتابع الانتخابات عن قرب، وكان يهمه كثيرا نجاح تلك التجربة الفريدة من نوعها في ذلك الوقت.
وحتى ولو افترضنا جدلا بأن المجلس العسكري كان سينقلب على النتائج، فذلك لم يكن مبررا للتصويت لمرشحهم. كان على رئيس التحالف أن يمنح صوته لشريكه في المعارضة، وليحدث بعد ذلك ما يحدث.
لقد كان على كفتي الميزان، رجلان يتشابهان في أشياء كثيرة، فهما يتقاربان في السن، وبنفس المؤهلات العلمية تقريبا، وبنفس الخبرات، وعلى نفس الدرجة من الالتزام الديني، وإن كان أحدهما يتميز عن الآخر بأنه لم يكن وزيرا في عهد ولد الطايع، وليست في سيرته فضيحة كبيرة لم تتكشف لنا ـ حتى الآن ـ كل تفاصيلها.
أحد الرجلين ضحى بسنوات طويلة من عمره و جهده وعرضه. فسُجِن عدة مرات، وساهم ـ بشكل أو بآخرـ في سقوط نظام ولد الطايع، وهو بذلك كان يستحق أن يترشح للرئاسة، بل وكان يستحق ـ في ذلك الوقت ـ الفوز بها. أما الرجل الثاني فلم يبذل جهدا حتى ولو كان جهدا يسيرا، في سبيل التحول الديمقراطي، وإنما ظل يتفرج من بعيد على تضحيات الآخرين، وانتظر حتى اكتمل كل شيء تقريبا، فجاء ليربك المشهد، وليترشح لمنصب الرئاسة مختطفا بذلك ثمار تضحيات الآخرين. والمصيبة أن ترشحه كان باقتراح وبدعم من بعض أعضاء المجلس العسكري، وهو ما شكل تهديدا لمسار ديمقراطيتنا الفتية ( ولقد اتضح ذلك فيما بعد).
المهم أنه في ذلك اليوم كان كل شيء في منتهى الوضوح، ولم يكن هناك أي منطق يبرر ـ إذا ما استثنينا المصالح الخاصة ـ لزعيم التحالف اغتيال تلك الفرصة النادرة حقا.
وبعد ذلك وفي أقل من سنتين، وفي يوم السادس من أغسطس تحديدا، سنجد أن مهمة الاغتيال سيتكفل بها هذه المرة زعيم المعارضة، في تآمر غير معلن لشيخي المعارضة على اغتيال الفرص المتاحة للتغيير. ويومها سيضطر زعيم التحالف لأن ينزل من جديد إلى ساحات النضال التي تعرفه ويعرفها. ولكن قبل نبش قبر الفرصة التي اغتالها زعيم التكتل، دعونا ننبش قبر فرصة أخرى، تم اغتيالها قبل ذلك، وإن كانت عملية الاغتيال في تلك المرة لم تكن مفاجئة، كما كانت عمليات الاغتيال التي سبقتها.
(3)
فجأة وجد "المرشح المؤتمن" نفسه رئيسا للبلاد، دون أن يبذل في سبيل ذلك جهدا مذكورا. ومن المفارقات اللافتة، أنه حصل على شرعية وطنية ودولية غير مسبوقة، لم يحصل عليها رئيس من قبله، ولم يحصل عليها الرئيس الذي جاء من بعده.
كانت هناك فرصة غير مسبوقة لأن يقود "الرئيس المؤتمن" تغييرا جذريا في هذه البلاد المتعطش شعبها لتغيير حقيقي.
ولكن الرئيس المؤتمن اغتال تلك الفرصة النادرة، لم يطلق عليها "رصاصة الرحمة"، كما كان يحدث في السابق، بل ظل يخنقها ويخنقها بهدوء ووقار، حتى سقطت ميتة ذات أربعاء مثير من شهر أغسطس الحبلى أيامه بالإثارة. ولقد وافق ذلك الأربعاء صبيحة السادس من أغسطس من العام 2008.
ظل "الرئيس المؤتمن" يتصرف وكأنه يستمد شرعيته من مزاج الضابطين اللذين بذلا جهودا جبارة في فوزه، فظل يتعامل معهما بطيبة كبيرة. وكان يتنازل لهما شيئا فشيئا عن صلاحياته، وبعد أن سلمهما كل صلاحياته، ولم يعد لديه ما يفعله، قرر أن يقيلهما دفعة واحدة، بل وأن يقيل معهما ضباطا آخرين.
وفي الليلة التي أعقبت إقالة الجنرالات لم يتمكن الكثير من الموريتانيين من النوم، بسبب البشاعة والعجرفة التي تم بها دفن "الفرصة المؤتمنة". لقد كان الجميع قلقا على مستقبل البلد، ولكن "الرئيس المؤتمن" في تلك الليلة ـ وحسب ما صرح به بعد ذلك لقناة الجزيرة ـ قرأ شيئا قليلا من الشعر، ثم غط بعد ذلك في نوم عميق، وكأن شيئا لم يحدث.
بعد ذلك أظهر "الرئيس المؤتمن" إرادة قوية، وظل يرفض الاستقالة حتى تم توقيع اتفاق دكار. ولو أن "الرئيس المؤتمن" أظهر قبل الانقلاب ربع أو خمس أو سدس ما أظهره بعد الانقلاب من تصميم وإرادة، لما ماتت الفرصة التي تم منحها له مخنوقة، ولما حدث ما حدث.
(4)
في صبيحة السادس من أغسطس اتجهت أنظار الموريتانيين إلى زعيم التكتل، فقد كانت كلمته في ذلك اليوم هي وحدها التي ستحسم الصراع، الذي تفجر بسبب الخصام بين حلفاء الأمس.
وكان على زعيم التكتل في ذلك اليوم أن يكون في صف الرئيس المنقلب عليه، كانت الحكمة تقول ذلك، وكانت الأخلاق تقول ذلك، وكانت الديمقراطية تقول ذلك، وكان المنطق يقول ذلك، وكانت المصلحة الشخصية لرئيس التكتل نفسه تقول ذلك. توقع الناس أن زعيم التكتل سيعمل على وقف صعود الجنرال، دون أن يمكن "الرئيس المؤتمن" من العودة لإكمال سنواته الثلاثة وأشهره الستة المتبقية من مأموريته. لقد كان بإمكان زعيم المعارضة في ذلك اليوم أن يقول بالعربي الصريح والفصيح لا الانقلاب، ونعم لعودة مشروطة للرئيس المؤتمن، ينظم خلالها انتخابات رئاسية مبكرة.
في ذلك اليوم، لم يتردد زعيم التكتل، ولو قليلا، وإنما أخرج سلاحه، ثم صوبه في اتجاه فرصة السادس من أغسطس، وأطلق عليها رصاصة قاتلة. كان مشهد عملية الاغتيال تلك مثيرا للاشمئزاز وللغثيان أيضا. ظل زعيم التكتل يتفرج على الفرصة وهي تتخبط في دمائها، حتى إذا ما لفظت "أنفاسها الأخيرة"، وتوقفت نهائيا عن الحركة، ولم يعد بالإمكان نفخ الروح فيها، خرج على الناس وقال لهم إنا على الجنرال لغاضبون، ولانقلابه لمعارضون.
(5)
في يوم الخامس من أغسطس من العام 2009، وفي الملعب الأولمبي تحديدا، تابع الموريتانيون لقطة فريدة ومثيرة، وسيتابعون بعد عام من ذلك، لقطة أخرى لا تقل إثارة عن لقطة الملعب الأولمبي.
ففي يوم الخامس من أغسطس من العام 2009 سلم "رئيس الفقراء" على الفقراء المتواجدين في المنصة المكشوفة، قبل أن يسلم على "الكبراء" المتواجدين في المنصة الرسمية للملعب الأولمبي.
وفي السادس من أغسطس من العام 2010 قرر "رئيس الفقراء" أن يخلد ذكرى تنصيبه بلقاء مباشر يستقبل فيه أسئلة المواطنين وشكاويهم.
فهل كان يمكن اعتبار تلك اللقطات بشرى لميلاد "فرصة جديدة"، على أرض "موريتانيا الجديدة" بعد عملية مخاض عسيرة وشاقة؟
ظل مرشح الفقراء أثناء حملته الانتخابية ينتقد رموز الفساد، ويصفهم بأبشع الأوصاف. انتقدهم وهو بحاجة ماسة لدعمهم، ولما فاز في الانتخابات بفعل التصويت المكثف للفقراء (كنت من أقلية الفقراء الذين صوتوا ضده)، كان أول شيء فعله هو استدعاء رموز الفساد إلى قصره، كأنه لا يريد أن يفتح عيناه في أي يوم من أيام مأموريته، إلا على رموز الفساد، و لا يغمضهما كذلك إلا علي رموزه.
لا أحد يعرف ما الحكمة في استدعاء "رئيس الفقراء" لرموز الفساد، وهو في غنى عنهم، رغم أنه كان قد تخلى عنهم أثناء حملته الانتخابية، وهو في أمس الحاجة إليهم.
المؤكد أن استدعاء رموز الفساد بعد التنصيب مباشرة كان بمثابة رصاصة قاتلة، أطلقت على "الفرصة الجنين"، وهي لا زالت في بطن أمها "موريتانيا الجديدة"، والتي كانت هي بدورها ـ أي موريتانيا الجديدة ـ في بطن أمها "موريتانيا الأعماق". فماتت الفرصة الجنين، وماتت معها موريتانيا الجديدة، وماتت موريتانيا الأعماق، ومات التغيير البناء، ومات تجديد الطبقة السياسية، وماتت الحيتان في أعماق البحر، وماتت الشجيرات التي غرسها "رئيس الفقراء" وحاشيته، وماتت جائزة شنقيط، ومات المنتخب الوطني، وماتت دور الكتاب، وماتت عاصمة الثقافة الإسلامية، وماتت الخمسينية، ومات الاتحاد من أجل التصفيق، وماتت الأغلبية ونوابها شر ميتة، فمات النواب وكانت آخر كلمة يقولونها في نهاية مأموريتهم، بعد خمس سنوات من قول "نعم"، هي نعم لخراب البلد، نعم لنهب البحر، بما فيه وبمن فيه.
الغريب أنه بعد موت "الفرصة الجنين" لا زال رئيس الفقراء، وحكومة التراكمات، والأغلبية الميتة يُطلقون الرصاص، وبشكل مستمر، على أشلاء الفرصة الجنين.
فهل يتلذذ رئيس الفقراء، وحكومة التراكمات، والأغلبية الميتة بإطلاق الرصاص على الأجنة الأموات؟ ذلك سؤال سأترك لكم الفرصة للإجابة عليه، فلا تغتالوها يرحمكم الله.
هناك فرصة يتم اغتيالها الآن من طرف جهات شتى، ربما يتم الحديث عنها في وقت لاحق، إن شاء الله.
تصبحون وأنتم رحماء بالفرص.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق