سيدي الرئيس،
في الأيام الماضية توجه إلى قصركم شيخ كبير طاعن في السن، واختلط بجموع أصحاب المظالم المتواجدين هناك. ولقد كان الشيخ يريد من سيادتكم أن تعيدوا له معزاته التي تم احتجازها في إحدى بلديات العاصمة.
لم يفكر الشيخ في أن يلجأ إلى الحاكم، ولا إلى وزير الداخلية، ولا إلى الوزير الأول لأنه ربما كان يعلم بأن كل أولئك لن يعيدوا إليه معزاته، أو لعل الشيخ حاول معهم واحدا بعد واحد ولكن بدون جدوى، لم أقابل الشيخ حتى أستفسر منه.
المهم أن حكومة معالي الوزير الأول التي تبذل "جهودا جبارة" من أجل تنفيذ برنامجكم الانتخابي، لم تستطع أن تطلق سراح شاة محتجزة في إحدى بلديات العاصمة لشيخ فقير طاعن في السن. أو أنها لم تستطع أن تكتسب ـ وهذا تفسير ثان وارد ـ ثقة شيخ كبير، وتجعله يحسن بها الظن، و يلجأ إليها لاستعادة شاته، بدلا من التوجه رأسا إلى سيادتكم من أجل إطلاق سراحها.
هذه القصة اخترتها ـ يا سيادة الرئيس ـ لكي تكون مدخلا لرسالتي المفتوحة رقم 20، والتي سأخصصها لمطلب مُلِح كنت قد طالبتكم به في الرسائل الأولى من هذه السلسلة من الرسائل المفتوحة، وهو المطلب المتعلق بضرورة إنشاء ديوان للمظالم.
سيدي الرئيس،
بدءا اسمحوا لي هنا أن أبين لكم حقيقة هامة جدا، أعتقد بأنه قد أصبح من الضروري تبيانها لكي لا تظل هذه الرسائل المفتوحة يُساء بها الظن، ويُساء فهمها خاصة من طرف بعض مقربيكم.
فأنا لو كنت معارضا حقودا ـ كما يزعم البعض ـ ما كتبت لكم هذه الرسالة المفتوحة، ولا كتبت لكم الرسائل المفتوحة التي سبقتها.
ولو كنت معارضا حقودا ـ وأرجو أن تتأملوا في هذا الكلام جيدا ـ لكتبت شيئا آخر غير هذه الرسالة المفتوحة. فالذي يتمناه حقا كل معارض حقود هو أن لا تنشئوا ديوانا للمظالم، حتى يظل الكل يزحف إلى الرئاسة، بدءا بصاحب الشاة، وانتهاء بصاحب الشهادات العالية، مرورا بالمطالبين بقطع أرضية، أو بعلاوات، أو باكتتاب، أو بماء، أو بتنفيذ أحكام قضائية، أو حتى بعابري السبيل.
ولو كنت معارضا حقودا لوليت وجهي شطر أحزاب المعارضة، ولقلت لهم بأن أهم شيء يمكن أن يفعلوه في هذه الأيام هو أن يركزوا اهتمامهم على أصحاب المظالم، وأن يشجعوهم على الزحف فرادى ومثنى وجماعات للالتحاق بمن سبقهم من المحتجين إلى القصر الرئاسي.
ولو كنت معارضا حقودا لطلبت من تلك الأحزاب أن تخصص كل مواردها المالية لتوفير وسائل نقل للزاحفين إلى القصر، مع توفير الشاي والطعام والشراب، هذا فضلا عن توفير كل الوسائل الضرورية الأخرى لإنعاش كل سهرة اعتصام أو احتجاج تنظم أمام القصر، وذلك لكي تستقطب "سهرات الرئاسة الاحتجاجية" أكبر عدد ممكن من الساهرين المحتجين.
فذلك هو أهم شيء ـ على الإطلاق ـ يمكن أن يتفرغ له معارض حاقد. أما أسوأ شيء يمكن أن يتفرغ له ذلك المعارض الحاقد، هو أن يفعل ما أفعل، "فيُضيع" وقته وجهده وفكره للبحث عن مقترحات عملية، يقدمها في رسائل مفتوحة إلى أولى الأمر في هذا البلد، الذي يقدر أهله كل شيء إلا الأفكار والمقترحات النافعة.
إن "حفاوة" الاحتجاج التي استقبلكم بها المئات من المواطنين بعد عودتكم من ساحل العاج، وما سبق ذلك من اعتصامات متواصلة يومي الأربعاء والخميس الماضيين لمئات المواطنين من سكان الأحياء الشعبية أمام القصر، مع تفكير بعضهم في اقتحام ساحته، ليفرض على كل من هو ليس بالمعارض الحاقد ولا بالحامل للموالاة في جيناته، أن يطلب من سيادتكم أن تنشئوا ـ وبشكل فوري ـ ديوانا للمظالم، وتختاروا له موظفين أكفاء ونزهاء، يستقبلون أصحاب المظالم ويبحثون معهم عن حلول عادلة لمشاكلهم مع الجهات المعنية، ويرفعون إليكم ما عجزوا عن حله، ويبلغونكم ـ بكل أمانة وصدق ـ بكل الجهات الإدارية التي لم تتعامل بإيجابية مع المظالم المرفوعة إليها.
إن هناك أسبابا عديدة أصبحت تفرض تأسيس هذا الديوان، ومن هذه الأسباب يمكن لي أن أذكر:
1 ـ إذا ما ظلت الأمور تدار بهذه الطريقة فإن الاحتجاجات والاعتصامات ستظل في تصاعد مستمر، وربما تصل في وقت قريب إلى مستويات يصعب السيطرة عليها.
2 ـ إن أي تعامل مباشر من طرفكم ـ إيجابيا كان أو سلبيا ـ مع هذا النوع من الاحتجاجات لن يؤدي إلا للمزيد من اتساعها. فاستجابتكم المباشرة لبعض المحتجين سيتسبب في خروج أفواج جديدة أخرى من أصحاب المظالم للاحتجاج أمام القصر حتى يستجاب لهم هم أيضا. وعدم الاستجابة سيزيد من إصرار المحتجين ومن عنادهم لأنه لا توجد جهة أخرى يمكن أن يلجؤوا إليها بعد الرئيس، لذلك فلن يكون أمامهم إلا أن يزيدوا من حجم ومستوى ضغوطهم عليكم.
3 ـ لقد أظهرت هذه الاحتجاجات بأنه لم يعد لدى المواطنين أي ثقة في مستشاريكم. ففي العهود السابقة كان أي تعهد يأتي من أي مستشار في الرئاسة يكفي لأن يوقف الاحتجاجات لأيام وربما لأسابيع يمنحها المحتجون ـ عادة ـ لاختبار جدية الوعود المقدمة إليهم من طرف المستشار. أما اليوم فإن المواطنين قد انهارت تماما ثقتهم بمستشاريكم، ولم يعودوا يقبلون بمنحهم هدنة، حتى ولو كانت من دقيقة واحدة ليختبروا فيها جدية تعهداتهم.
4 ـ إذا كان لدى سكان العاصمة فرصة لكي يبلغوكم مظالمهم من خلال الاحتجاج أمام القصر، فإن سكان الولايات الداخلية ليست لديهم تلك الفرصة، لذلك فإنهم يلجؤون عادة لبعض الأعمال التي قد لا تكون مناسبة من أجل لفت الانتباه إلى مظالمهم، كإحراق المباني والممتلكات العمومية (فصالة مثلا) أو كقطع الطريق أمام السيارات كما حدث في الغايرة ولبيرد وفي قرى أخرى.
5 ـ لقد عرفت الأسابيع الأخيرة تطورا لافتا في اتساع رقعة الاحتجاجات، وفي تزايد عدد المشاركين فيها، خاصة من المواطنين البسطاء الذين ربما تكون غالبيتهم قد صوتت لكم في الانتخابات الرئاسية. هذا فضلا عن استعداد هؤلاء للتعبير ـ من حين لآخر ـ عن مستوى غضبهم بطرق و أساليب قد تكون عنيفة في بعض الأحيان، وهو ما يستدعي ـ من سيادتكم ـ اتخاذ حزمة من القرارات الشجاعة، والتي يجب أن يكون على رأسها تأسيس ديوان للمظالم، تُمنح للقائمين عليه صلاحيات واسعة تمكنهم من أن يجعلوا منه الوجهة الأولى ـ وربما الأخيرة ـ لكل صحاب مظلمة في هذا البلد، وما أكثر أصحاب المظالم في هذا البلد.
وفي ختام هذه الرسالة، اسمحوا لي ـ يا سيادة الرئيس ـ أن أثمن تعليماتكم الأخيرة لوزارة التوجيه الإسلامي والتي طالبتم فيها بالكشف عن خرائط الموتى الموريتانيين المفقودين منذ الاستقلال، وحبذا لو صاحب تلك التعليمات تعليمات أخرى تعيد للغة الرسمية لهذا البلد مكانتها اللائقة بها والتي منحها لها الدستور الموريتاني، وهي المكانة التي لا زالت تغتصبها اللغة الفرنسية التي لم يأت ذكرها في هذا الدستور.
إن ملف الإرث الإنساني وقضية اللغة العربية يعتبران من أهم القضايا الشائكة التي لم يعد من الممكن تجاهلهما، وهما مشكلتان عويصتان معقدتان حساستان كان من الحكمة أن يتم حلهما بشكل جذري وفي وقت متزامن.
فحل واحدة من المشكلتين دون حل الثانية لن يؤدي ـ قطعا ـ إلى الاستقرار في هذا البلد، وهو فوق ذلك سيزيد من تعقيد حل المشكلة التي سيتم تأجيلها إن لم يجعل من حلها مستقبلا أمرا مستحيلا.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير البلد، وإلى الرسالة الواحدة والعشرين إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق