إني أحلم بأن أستيقظ ذات يوم على وطن حقيقي، يكون انتماء المواطن فيه للوطن من قبل أن يكون للقبيلة، أو للجهة ، أو للعرق، أو للشريحة.
الأحد، 15 مايو 2011
وماذا قدمتَ أنتَ للوطن؟
أيها الطالب ..
أيها الأستاذ..
أيها السياسي..
أيها المثقف..
أيها الطبيب..
أيها المواطن العادي..
إني أقصدكم جميعا بهذا السؤال الذي قررت أن أوجهه إليكم، من خلال هذا المقال، مع العلم أني لا أنتظر منكم الإجابة عليه، لأني ـ وبصراحة شديدة ـ أعرف بأنه ليست لديكم أية إجابة.
في البداية سأحكي لكم قصة صينية ، مع شيء من التصرف. تقول هذه القصة، بأن أبا مزق خريطة العالم تمزيقا شديدا، ثم ناول الخريطة الممزقة لابنه ـ الذي لم يتجاوز عامه الخامس ـ وطلب منه إعادة تنظيم قطع الورقة الممزقة، حتى تعود الخريطة إلى شكلها الأصلي.
بعد أقل من خمس دقائق أعاد الطفل الصغير خريطة العالم لأبيه كما كانت، وهو ما أذهل الجميع باستثناء الأب.
دعونا نحتفظ بسر الطفل الصيني الصغير قليلا، ودعونا نختم هذه القصة بالحكمة الصينية المستخلصة منها، والتي مفادها أنه بإمكان كل واحد منا أن يصلح خريطة العالم كله إذا ما أصلح نفسه.
وإذا ما اختزلنا خريطة العالم في خريطة موريتانيا، فسيكون بإمكاننا أن نقول ـ اعتمادا على الحكمة الصينية ـ بأنه بإمكان كل واحد منا أن يصلح من حال موريتانيا، إذا ما أصلح قبل ذلك من حاله.
بإمكان كل طالب أن يصلح من حال موريتانيا إذا ما أصلح من حاله..
وبإمكان كل أستاذ أن يصلح من حال موريتانيا إذا ما أصلح من حاله..
وبإمكان كل طبيب أن يصلح من حال موريتانيا إذا ما أصلح من حاله..
وبإمكان كل سياسي أن يصلح من حال موريتانيا إذا ما أصلح من حاله..
وبإمكان كل مثقف أن يصلح من حال موريتانيا إذا ما أصلح من حاله..
وبإمكان كل مواطن عادي ـ مثلي ومثلك ـ أن يصلح من حال موريتانيا إذا ما أصلح من حاله..
بإمكان كل واحد منا ـ طبقا للحكمة الصينية ـ أن يغير وجه موريتانيا، لو استطاع أن يغير من وجهه. وبإمكان كل واحد منا أن يكون كالمواطن الأمريكي البسيط الذي يدعى "مارتن تربتو"، والذي وُجِد مقتولا في العام 1917 في ساحة المعركة فيما يعتقد هو أنه كان دفاعا عن أمريكا. لقد ترك ذلك الأمريكي البسيط محل الحلاقة الصغير الذي كان يعمل به، وذهب متطوعا للدفاع عن أمريكا.
لقد وجدوه مقتولا، ووجدوا معه ورقة كتب عليها: "العهد الذي أخذته على نفسي: يجب أن تنتصر أمريكا في هذه الحرب، سأعمل، سأدخر، سأضحي، سأتحمل، سأحارب وأفعل كل ما بوسعي، كما لو أن الأمر برمته متوقف عليَّ أنا وحدي".
فهل بإمكان أي واحد منا ـ نحن سكان هذه البقعة من الأرض ـ أن يأخذ ورقة ويكتب فيها: "العهد الذي أخذته على نفسي : يجب أن تنتصر موريتانيا في حربها ضد التخلف والفقر والفساد، سأعمل، سأدخر، سأضحي، سأتحمل، سأحارب وأفعل كل ما بوسعي، كما لو أن الأمر برمته متوقف عليَّ أنا لوحدي".
أشك أن فينا من بإمكانه أن يكتب تلك الوصية، وأشك أن فينا من يمكنه أن ينفذها إذا ما تجرأ وكتبها، وذلك نظرا لضعف الحس الوطني لدينا، والذي هو أضعف بكثير من مستواه لدى الأمريكيين الذين هم في الأصل عبارة عن مهاجرين جاؤوا من كل أصقاع العالم واستوطنوا تلك الأرض.
ولعل سر نجاح الثورات العربية ـ حسب اعتقادي ـ يكمن في توفر روح التضحية لدى أغلب المشاركين في تلك الثورات. فقد كان كل واحد من الثائرين على استعداد كامل لأن يضحي بكل شيء، وكأنه هو وحده الموجود في ساحة المعركة، وبالتالي فهو وحده المسؤول عن نجاح الثورة، تماما كما كان الحلاق "مارتن تربتو" يعتبر نفسه بأنه هو وحده المسؤول عن انتصار أمريكا في حربها.
وهل فينا من بإمكانه أن يعتبر ـ مثلا ـ بأن القضاء على الفساد يقع على عاتقه هو لوحده؟ وهل فينا من بإمكانه أن يقرر بأنه لن يرشي ولن يرتشي حتى ولو ضاعت له حقوق كثيرة؟ وهل فينا من بإمكانه أن يقرر بأنه لن يستنفر القبيلة حتى ولو خسر فرصا كثيرة في الحصول على وظيفة أو ترقية؟ وهل فينا من بإمكانه أن يقرر بأنه لن يمنح صوته في أي انتخابات إلا لمن يستحق ذلك الصوت، حتى ولو كان منافسه قريبا أو صديقا أو رجلا "كريما" ينفق المال الحرام بسخاء ذات الشمال وذات الشمال في أيام الحملة؟ وهل بإمكان أي واحد منا أن يقرر من الآن فصاعدا أن يخصص ساعة من كل أسبوع للخدمة العامة، يعلم فيها أميا، أو ينظف فيها شارعا، أو يعزز فيها من اللحمة الوطنية التي باتت مهددة، والتي بات إنفاق الجهد أو المال أو الوقت في سبيل تعزيزها يعد من خير الأعمال والقربات؟ ( أين أنتم يا حراس المستقبل؟ ولماذا اختفيتم في هذه اللحظات الصعبة التي شهدت صراعات عرقية؟ ولماذا تبخر حماسكم بهذه السرعة؟ ولماذا توقفت نقاشاتكم بشكل كامل؟ وهل كنتم تعتقدون بأنه سيفرش لكم السجاد الأحمر بمجرد أنكم اجتمعتم على فكرة عظيمة؟ وهل فاتكم أن الأفكار العظيمة لا بد أن تواجهها تحديات عظيمة؟ وهل فاتكم أن ذلك هو ما يقوله كل أرشيف الأفكار الرائدة التي عرفها العالم؟)
من المؤسف أنه ليس فينا من يستطيع أن يقرر شيئا من ذلك، فالموريتاني يمكن أن نعرفه بأنه هو ذلك المخلوق العجيب الذي يستطيع أن يضحي ببلده ـ ودون تردد ـ من أجل أي شيء تافه، ولا يستطيع أن يضحيَّ بأي شيء تافه، مهما كانت تفاهته، من أجل بلده.
لقد قدم اليابانيون صورا راقية من التضحية، حتى في أوقات الكوارث والزلازل. ولقد بهر اليابانيون العالم بعد الزلزال الأخير عندما أصر الضحايا، وفي ساعات الصدمة الأولى، أن يلتزموا بالنظام رغم حجم الكارثة.
لقد رفض الياباني المنكوب أن يُخِل بالنظام، حتى في ظل الفوضى التي تسبب فيها الزلزال. وظل الياباني ينتظر دوره في الإغاثة دون أن يتحايل، ودون أن يأخذ مكان منكوب آخر، رغم أن التقدم بخطوة واحدة في ذلك الوقت ربما كان سببا حاسما في النجاة من الموت.
عندما تابعت تلك الصور المؤثرة القادمة من اليابان تذكرت صورا أخرى مغايرة تماما، وتتكرر دائما على أرضنا التي نسكن ( نحن لا نتعامل مع الأرض التي نسكن على أنها وطن أو بلد). تذكرت أني لم أشاهد في حياتي أي شيء على هذا الأرض يبدأ بالنظام وينتهي به، وتذكرت مشاهد الجشع اليومية التي أشاهدها في كل مكان، وتذكرت كيف يتحايل أغنياء هذه الأرض على فقرائها، وكيف ينافسونهم على قطع أرضية تافهة، أو على كيلوغرامات قليلة من اللحوم القادمة من السعودية، أو على سمكة رخيصة من الأسماك التي توزعها الحكومة من حين آخر، لسبب أو لآخر.
فلماذا نحن هكذا؟ وهل نحن حقا بشرا أسوياء ؟ أم أننا مخلوقات غريبة تختلف عن كل شعوب العالم؟
يمكن لنا أن نعرف الموريتاني تعريفا آخر، لا يختلف في الجوهر عن التعريف السابق، ونقول بأنه: هو ذلك المخلوق العجيب الذي يريد أن يأخذ كل شيء من "بلده"، في الوقت الذي يرفض فيه أن يقدم أي شيء لبلده.
لا تحدثوني من فضلكم عن الأعمال التي تقومون بها مقابل أجر، فتلك يمكن اعتبارها ـ بشكل أو بآخرـ مجرد صفقة تجارية، فلو أننا أبدلنا جميع العمال من الوزير إلى البواب بعمال مستوردين من الهند، أو من بنجلادش، أو من الأرجنتين مثلا، وأعطيناهم نفس الأجور المتدنية التي كانت تعطى للعمال الموريتانيين، لو فعلنا ذلك، لقدم الهنود والبنجاليون والأرجنتينيون لهذا البلد أضعاف ما قدمه "أبناء موريتانيا" للبقعة التي يقطنون بها، والتي يسمونها مجازا بالبلد أو بالوطن.
وإذا ما تأملنا الوجه الآخر لموجة الاحتجاجات الفئوية الواسعة والمتنامية، والتي هي بالتأكيد احتجاجات مشروعة، وأصحابها يستحقون ـ قطعا ـ أن يستجاب لهم. وكل استجابة لمطالبهم المشروعة ستنعكس بالتأكيد على مستوى معيشة أسرهم الفقيرة، كما أنها قد تنعكس ـ نظريا ـ على مستوى أدائهم الوظيفي. إذا ما تأملنا الوجه الآخر لتلك الاحتجاجات فإن ذلك قد يساعدنا في كشف جزء يسير من أنانية الموريتاني، والتي يتساوى فيها الحاكم والمحكوم، المتعلم والجاهل، الكبير والصغير، الموظف والعاطل.
ومن المؤكد بأن هذا الكلام سيغضب الكثيرين(لست سياسيا يبحث عن الأصوات، لذلك فلن أقول للناس ما يحبون أن يقال لهم، ولن أعرض عما يجب أن يقال لهم). ومن المؤكد أن البعض سيعتبر هذا الكلام تطاولا على العمال البسطاء الضعفاء ( لن أقبل بأن يزايد عليَّ أيا كان في مناصرة البسطاء و المستضعفين، وما أنا إلا واحد من أضعف المستضعفين).
كل ما في الأمر هو أنه في بعض الأوقات يكون من اللازم أن تُعَرَّى الحقيقة، حتى تظهر بكل تفاصيلها وبكل جزئياتها، بما فيها تلك التي لم نكن نرغب في أن نراها.
دعونا ـ وقبل أن نكشف سر الطفل الصيني ـ أن نطرح الأسئلة التالية؟
هل حدث وأن شاهدتم مجموعة من الأطباء أو الممرضين تنظم إضرابا من أجل فتح مركز صحي في قرية نائية؟ أو من أجل تجهيز مستشفى بآلات طبية ضرورية؟ أم أنكم عرفتموهم وهم يتركون المستشفيات في أوقات الدوام الرسمي ليلتحقوا بعياداتهم الخاصة؟
هل حدث وأن شاهدتم مجموعة من العاملين في مؤسسات الإعلام الرسمي تنظم احتجاجات من أجل تقريب الإعلام الرسمي من هموم المواطنين؟ أم أنكم عرفتموهم وهم يشكلون بنيانا مرصوصا ضد أي محاولة لتقريب الإعلام الرسمي منكم، رغم أنكم أنتم هم من يسدد أجورهم، وأنتم هم من سيدفع زيادة 50% التي يطالبون بها، من خلال الضرائب التي تدفعونها؟
وهل حدث وأن شاهدتم مجموعة من المعلمين أو الأساتذة تهدد بالتوقف عن التدريس من أجل الضغط على الحكومة لكي تجبرها على تنظيم منتديات للتعليم، والتي يعتبر تنظيمها هو الخطوة الأولى في سبيل إصلاح التعليم؟ أم أنكم ألفتموهم وهم يتثاءبون في المدارس العمومية وينشطون أثناء تقديم الدروس الخصوصية؟
ألم تشاهدوهم وهم يضغطون بقوة وبحماس غير مألوفين على الوزيرة التي كانت هي أول من حاول وبشكل جاد أن يصلح قطاع التعليم، وأن يعيد للمدرسة قليلا من الاعتبار، وأن يحدد معايير واضحة وشفافة لاكتتاب المدراء الجهويين، وأن يحد من تسيب المعلمين والأساتذة؟
فلماذا خف ضغط الأساتذة على وزراء التعليم الذين جاؤوا بعد الوزيرة، رغم أنهم أساؤوا للتعليم أكثر مما أساءت هي إليه؟ ولماذا لم يضغطوا على الوزراء الذين جاؤوا قبلها والذين أفسدوا التعليم أكثر مما أفسدته هي؟
للإجابة على هذه الأسئلة عليكم أن تفتشوا عن كل شيء عدا الوطنية.
لقد استطاع الطفل الصيني الصغير أن يعيد خريطة العالم لشكلها الأصلي، لأنه اكتشف أن مقلوب الصفحة التي رُسمت عليها خريطة العالم كانت توجد به صورته الشخصية، والتي وضعها الأب لكي يقدم لابنه درسا عميقا، لن يتعلمه في أي مكان.
ولقد كان من السهل على الطفل أن يعيد صورته الشخصية الممزقة إلى شكلها الأصلي، وهو ما انعكس ـ وبشكل تلقائي ـ على الوجه الآخر من الورقة، حيث عادت خارطة العالم، في الوجه الآخر، إلى شكلها الأصلي من قبل تمزيق الورقة.
من هذه القصة جاءت الحكمة الصينية الآنفة الذكر، والتي تحاول أن تقول بأنه يكفي من أجل أن نصلح خريطة العالم أن نصلح وجه إنسان واحد.
وإذا كان صلاح إنسان واحد يكفي لإصلاح خريطة العالم الممزقة، أفلا يكفي صلاح موريتاني واحد لإصلاح خريطة موريتانيا التي باتت ممزقة بفعل الفساد والفقر والأمية وبسبب غياب العدل وتنامي الخطابات والدعوات العنصرية والعرقية؟
مشكلتنا في هذا البلد ـ وهذه هي أم المشاكل لدينا ـ هي أن كل واحد منا يرفض أن يكون مواطنا صالحا، وهو يشترط لأن يكون مواطنا صالحا صلاح الملايين الثلاثة برئيسها وبوزرائها وبسياسيها وبمثقفيها وبطلابها وبأغنيائها وبفقرائها وبشبابها وبشيبها وبنسائها وبرجالها وبنخبها وبعامتها وبرموز فسادها وبمفسديها الصغار وبأحيائها وبأمواتها.
إن طريق التغيير المنشود، الذي نتنمناه جميعا لبلادنا دون أن نعمل على إحداثه، يبدأ بسؤال واحد يتعين على كل موريتاني أن يجيب عليه.
أفلا يمكن لي أنا ـ مثلا ـ أن أقرر من الآن بأن أكون مواطنا صالحا حتى ولو ظل المجتمع كله فاسدا؟ ألا يمكن لكَ أنتَ أن تتخذ مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لكِ أنتِ أن تتخذين مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن له هو أن يتخذ مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لها هي أن تتخذ مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لنا نحن أن نتخذ مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لكما أنتما أن تتخذا مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لهما أن يتخذا مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لكم أنتم أن تتخذوا مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لكن أنتن أن تتخذن مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لهم هم أن يتخذوا مثل ذلك القرار؟ ألا يمكن لهن أن يتخذن مثل ذلك القرار؟ بالتأكيد يمكن لنا جميعا أن نتخذ مثل ذلك القرار، ولو اتخذناه لتمكنا من أن نصلح من حال موريتانيا، ولاستطعنا أن نصعد بها درجات كثيرة في سلم التقدم والنماء، في أقل من خمس دقائق، عفوا في أقل من خمس سنوات.
تصبحون وقد اتخذتم القرار..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق