"أسياد" خارج قفص الاتهام !!!
تابعت ـ باهتمام كبير ـ الحوار الهام الذي نظمه التلفزيون الرسمي عن العبودية، ذلك الحوار الذي أثار قضايا هامة وشائكة عن الرق، وعن مخلفاته كما أثار بعض القضايا المرتبطة بهذه الظاهرة، والتي قد تتداخل معها في كثير من الجوانب، لدرجة تختفي فيها كل الخيوط الرفيعة التي من المفترض أنها تفصل بين الاسترقاق وتشغيل القصر من جهة، و بعض مظاهر التكافل الاجتماعي، والتي تتخذ ـ في بعض الأحيان ـ أشكالا بدائية، لم تعد تنسجم مع تعقيدات العصر.
ومع أن الحوار قد تطرق إلى جوانب مهمة من الموضوع، إلا أن ذلك لن يمنع من القول بأن المتحاورين قد تجاهلوا ـ بقصد أو بغير قصد ـ "مسترقين" و "أسيادا" يلعبون ويمرحون في هذا البلد، ولا يجدون من يتصدى لهم، رغم أنهم هم العدو الأول للأرقاء وللأرقاء السابقين. وقبل الحديث عن هؤلاء المسترقين، قد يكون من المناسب،أن أسجل بعض الملاحظات حول حلقة الحوار المفتوح، التي تم تخصيصها ـ في سابقة من نوعها ـ لواحدة من أهم القضايا التي تؤرق ـ أكثر من غيرها ـ العقلاء في هذا البلد.
الملاحظة الأولى: على القائمين على التلفزيون أن يعلموا بأن الشمس لم تطلع من مغربها، وأن السماء لم تسقط كسفا على الأرض، بعد بث الحلقة المذكورة. لم تتسبب هذه الحلقة في حدوث أي كارثة، بل على العكس، فإنها ومثلها من البرامج الحوارية الهادفة سيخفف كثيرا من حدة الاحتقان، وسيساعد بلادنا في تجنب المخاطر التي قد يتسبب فيها غياب مثل هذه الحوارات.
إن مثل هذه البرامج الهامة يجب أن لا تكون مجرد ردة فعل عابرة لامتصاص موجة الانتقادات المتنامية للتلفزيون، رسمية كانت أو شعبية، والتي زادت حدتها في الأسابيع الماضية. وعلى القائمين على التلفزيون أن يعلموا بأن مثل هذه البرامج يجب أن تكون أكثر أولوية من برامج "أزوان"، ومن كل البرامج المشابهة، والتي تصنف ـ عادة ـ على أنها برامج ترفيهية، وإن كانت في حقيقتها ليست كذلك.
وأعتقد أن الكثير من العقلاء في هذا البلد، يوافقون رئيسة "رابطة النساء المعيلات للأسر" فيما ذهبت إليه في هذا المجال.فليس من الحكمة، أن يظل التلفزيون يقدم جرعات زائدة من "أزوان" في الوقت الذي يتجاهل فيه كليا التحديات التي تهدد مستقبل البلد، والتي قد تعصف ـ لا قدر الله ـ بالبلد، وأهله منشغلون بمتابعة دروس من الموزون، أو بمشاهدة صور من البادية الموريتانية.
الملاحظة الثانية: حاولت الحلقة بخجل شديد أن تكشف الستار عن الازدواجية التي نتعامل بها جميعا ( حكومة، منظمات، ساسة، كتاب..) مع ظاهرة العبودية في بلدنا. وهي ازدواجية جعلتنا نغمض أعيننا عن ممارسات بشعة من العبودية، لا زال يمارسها بعض الأسياد في إحدى المجموعات الوطنية.فهناك أسياد كثر في هذه المجموعة خارج قفص الاتهام، وإن كانوا ليسوا هم الأسياد الذين قصدتهم بعنوان هذا المقال.
وإذا كان يصعب اليوم أن نجد في مجتمع "البيظان"، متعلما أو ميسورا يقبل أن يكون عبدا، فإن الأمر يختلف لدى السوننكيين، حيث تنفرد هذه المجموعة عن غيرها من المجموعات الوطنية، بأنه لا زال يوجد بها أرقاء متعلمون، وميسورون، ويشغلون في بعض الأحيان وظائف سامية، لا يحلم بها أسيادهم، ومع ذلك يقبلون ـ وبشكل مثير للاستغراب ـ ممارسة بعض الأعمال والطقوس، لصالح أسيادهم، والتي تتنافى ـ بشكل صارخ ـ مع الحدود الدنيا للكرامة الإنسانية.
الملاحظة الثالثة: إذا كان يحق لنا أن نفتخر اليوم بأننا قد قطعنا أشواطا كبيرة في النضال السياسي والحقوقي ضد العبودية، وهنا لابد أن أوجه تحية لمنظمة نجدة العبيد، ولرئيسها الذي كان ضيفا في الحلقة، إذا كان يحق لنا أن نفتخر بذلك، فإنه علينا جميعا أن نخجل من تقصيرنا، ومن تقاعسنا الواضح (حكومة، ومنظمات) في مجال ما أسميته في مقال سابق بالنضال التنموي ضد العبودية.
وإنه لمن المؤكد أنه في ظل غياب نضال تنموي حكومي وأهلي جاد ضد العبودية ستظل كافة الجهود الأخرى ناقصة، ومحدودة الفاعلية. وسيظل دائما هناك من يقبل "طوعا" أو كرها بأن يكون عبدا، وسيكون دائما هناك من يبذل جهدا كبيرا من أجل أن يجد "سَيِّدا" يطعمه ويسقيه، في زمن شحت فيه موارد الدخل، وارتفعت الأسعار، وكثرت احتياجات الأفراد.
إن الفقر والأمية هما "سيدان" خارج قفص الاتهام، وهما اللذان يجبران الأرقاء، والأرقاء السابقين، بل ويجبران في بعض الأحيان، بعض الأسياد السابقين إلى البحث عن سيد جديد أو قديم يستعبدهم من أجل مقابل مادي زهيد، يزيدهم احتياجا وفقرا وجهلا، ويدفعهم إلى التنازل أكثر عن كرامتهم، وعن حقوقهم التي من المفترض أن تكفلها لهم قوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
لقد حان الوقت لأن نقدم بلاغا ضد الفقر والأمية، وقد حان الوقت لأن نوجه لهما تهمة ممارسة الاسترقاق، وأن نطالب بطردهما من البلاد، بعد إنزال أقصى العقوبة بهما.
إن هناك مليونا ونصف من الموريتانيين أميون يعيشون في ظروف مزرية بسبب الأمية والفقر. وهم ضحايا لمجرمين خارج قفص الاتهام، لا يجدان من يتهمها حتى في برنامج حواري عن العبودية.
لقد أمست الأمية تلعب وتمرح وتفعل أفاعيلها بضحاياها من الموريتانيين، دون أن تجد من يرفع ضدها بلاغا، أو يذكرها حتى، منذ أن توقف الحديث عنها صبيحة الثالث من "شهر التناوب الرئاسي الخشن"، من العام 2005.
وإن الفقر ليلعب هو أيضا ويمرح، ويفعل أفاعيله بضحاياه من الموريتانيين، بل إنه زاد من جرائمه وغطرسته وجبروته، في الفترة الأخيرة، بعد أن أيقن أن البلاغ الذي رُفِع ضده صبيحة السادس من "شهر التناوب الخشن" من العام 2008، كان مجرد بلاغ غير ذي شأن، في حزمة من بلاغات غير ذي شأن رُفعت ضد الفساد، والبطالة، وانحراف المسار، ورموز الأنظمة السابقة، والأزمة الأخلاقية، وسوء توزيع المتاح من العدالة، وأشياء كثيرة أخرى من أغنية طويلة نساها الناس في وقت مبكر، ونستها ـ وهذا هو أغرب ما في الأمر كله ـ فرق الإنشاد والتصفيق والتطبيل التي تشكل ما يسمى بالاتحاد من أجل الجمهورية .
تصبحون على نضال تنموي ضد الرق ومخلفاته...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق