إني أحلم بأن أستيقظ ذات يوم على وطن حقيقي، يكون انتماء المواطن فيه للوطن من قبل أن يكون للقبيلة، أو للجهة ، أو للعرق، أو للشريحة.
الثلاثاء، 11 يناير 2011
ماذا نريد من الزعيم "مسعود"؟
هذا المقال ليس إلا امتدادا لمقال بعنوان "الانقلاب الأسمر"، الذي كتبته منذ عام تقريبا، وخصصته للحديث عن بعض التصريحات، التي أطلقها ـ في ذلك الحين ـ بعض قادة حركة الحر، لكي يمهدوا بها لإعلان بيانهم الأول للانقلاب على زعيم ومؤسس الحركة.
بعد نشر ذلك المقال، تلقيت ردودا متباينة ومتناقضة، من بينها ردود غاضبة، اعتبر أصحابها ـ سامحهم الله ـ أن اختيار الموضوع، كان نتيجة لسوء نية. كما اعتبروا أن الخلافات التي تحدثت عنها، مجرد خلافات وهمية، لا أساس لها من الصحة.
وبعد مرور عام تقريبا، تبين أن تلك الخلافات، لم تكن مجرد خلافات تخيلية أو وهمية، وذلك بعد أن أفضت ـ في مطلع هذا العام ـ إلى إعلان البيان الأول، الذي اعتبره البعض ـ ولهم الحق في ذلك ـ مجرد بيان فاشل، لمحاولة انقلابية فاشلة. في حين أن البعض الآخر، اعتبره مقدمة لـ "حركة تصحيحية"، كان لابد منها، لتصحيح مسار نضال حركة الحر.
ويعتقد " المنقلبون"ـ أو "المصححون"إذا ما أرادوا تسميتهم بذلك ـ أن مسار الحركة، بدأ ينحرف عن الاتجاه الصحيح. وأن السبب في ذلك، يعود إلى تخلي الزعيم "مسعود" عن دوره النضالي الحركي، لصالح دوره الوطني المتنامي.
وهذه الحجة بالذات، هي التي جعلتني أعود إلى الموضوع من جديد، وذلك لأتحدث بشكل أكثر تفصيلا، عن فقرة أوردتها في مقال "الانقلاب الأسمر"، لتبيان أهمية التوفيق بين الدورين : الحركي والوطني.
وقد جاء في تلك الفقرة ما نصه: " إن الزعيم "مسعود" سيبقى أعظم هبة قدمتها موريتانيا لحركة الحر، كما أنه سيبقى ـ في المقابل ـ أعظم هبة قدمتها حركة الحر لموريتانيا. لذلك فإنه لا يجوز لحركة الحر أن تحتكره، وتحرم موريتانيا منه. كما أنه لا يجوز لموريتانيا أن تحتكره، وتحرم الحركة من زعيمها المؤسس."
وفي ظل تطورات الأحداث، التي تعرفها الحركة اليوم، فقد ارتأيت العودة إلى هذه الفقرة من المقال المذكور، لأن ما ورد فيها قد يرى البعض أنه مجرد كلام نظري جميل، وذلك لأبين أن الزعيم "مسعود" بإمكانه ـ وهو ما يفعله بجدارة ـ أن يوفق بين النضال من أجل الشريحة، والنضال من أجل الوطن. وأنه لا تناقض ـ على الإطلاق ـ بين النضالين، إلا في أذهان بعض"المنقلبين"، أو "المصححين"إذا ما أرادوا تسميتهم بذلك.
ومن الغريب حقا، أن يطلب البعض من الزعيم " مسعود"، أن يتجاهل أنه يعيش اليوم في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وأن يطلب منه أن يعود إلى نفس أساليب النضال، التي كان يمارسها في نهاية السبعينات، من القرن الماضي.
وإنه لمن الغريب كذلك، أن يُطلب من هذا الزعيم، أن يتجاهل الانجازات الكبيرة التي تم تحقيقها خلال العقود الماضية، والتي من بينها ترسانة قوية من القوانين، لا زالت ـ بطبيعة الحال ـ تحتاج لجهد كبير، من أجل العمل بها. ومن الغريب أيضا، أن يُطلب منه أن يتجاهل أن مكافحة الرق، لم تعد كما كانت في الماضي، ولم تعد قضية شريحة، بل أصبحت مطلبا وطنيا، لدى كل القوى السياسية، حتى وإن كان لا يزال عند الكثيرين مجرد مطلب نظري،لا يترتب عليه أي عمل ميداني. فكيف يُطلب ـ إذاً ـ من الزعيم "مسعود" أن يتجاهل كل ذلك؟ وكيف يُطلب منه أن يضيع الفرصة الكبيرة المتاحة له اليوم، والتي لم تأت صدفة، وإنما جاءت ثمرة لعقود من النضال المتواصل؟ فكيف يطلب منه أن يتنازل عن قيادة حركة وطنية كبيرة ومتنامية لمكافحة الرق، تشارك فيها كل القوى السياسية، وإن بدرجات متفاوتة جدا، وذلك لكي يحافظ على قيادة حركة الحر، التي لم تعد صالحة للبقاء بلبوسها القديم، بعد أن أدت دورها ، كاملا غير منقوص، في مكافحة الرق، وباعتراف الجميع.
لم تعد حركة الحر، بزيها وبلونها التقليدي، صالحة للبقاء. ولم يعد بإمكان الزعيم "مسعود" ـ حتى وإن أراد ذلك ـ أن يعود بالتاريخ إلى الوراء، ولم يعد بإمكانه ـ كذلك ـ أن يدير ظهره لآلاف الموريتانيين، من الشرائح والأعراق الأخرى، والذين يعلقون عليه آمالا كبيرة، لا تقل عن مستوى الآمال، التي يعلقها عليه أنصاره من شريحة لحراطين.
ولكن في المقابل، أليس من الظلم أن نطلب من الزعيم "مسعود"، أن يتعامل مع البسطاء من شريحته، والذين رفعوه مكانا عليا، كما يتعامل مع أنصاره من الشرائح الأخرى؟
ألا يستحق أولئك معاملة متميزة، لأنهم هم الذين يرجع لهم الفضل في تقديم الزعيم " مسعود" إلى كل الموريتانيين؟ ألا يستحق أولئك البسطاء "تمييزا إيجابيا" من الزعيم " مسعود" ، وهم الذين يستحقون ذلك التمييز ـ باتفاق الجميع ـ من طرف الحكومة، ومن طرف كل القوى السياسية الأخرى؟
في اعتقادي الشخصي، أن هناك دورين أساسيين، يجب أن يلعبهما الزعيم "مسعود"، في الحاضر، وفي المستقبل المنظور، لصالح شريحة لحراطين، وهما يشكلان ـ بالتأكيد ـ امتدادا لنضال حركة الحر، ولكن بأساليب ووسائل جديدة، لا تتناقض، ولا تتعارض ـ بأي حال من الأحوال ـ مع مكانته الوطنية المتميزة، التي أصبح يتمتع بها.
وقبل الحديث عن هذه الدورين الأساسين، قد يكون من المناسب، تقديم بعض الملاحظات، عن قضايا ذات صلة بالموضوع، يتزايد الحديث عنها منذ مدة.
الملاحظة الأولى: لا خلاف في أن مكافحة الاسترقاق، ومخلفات الرق، يجب أن تكون على رأس القضايا التي على الموريتانيين أن يناضلوا في سبيلها. ولا خلاف أيضا في أن من تفرغ للدفاع عن تلك القضايا العادلة، يستحق من الجميع احتراما وتقديرا خاصا، ولكن ذلك لا يشرع، بأي حال من الأحوال، لبعض المدافعين عن تلك القضية العادلة، أن يتجاهلوا المصالح العليا للوطن، والتي يجب أن تظل فوق كل المصالح العرقية، أو السياسية، أو الجهوية، أو القبلية. كما أن شرف الدفاع عن تلك القضية العادلة، لا يمنح لصاحبه بطاقة تأمين ضد النقد إذا ما أخطأ. ولا يجيز له انتقاد الشرائح، و الأعراق الأخرى، بعبارات مسيئة ونابية.
الملاحظة الثانية: إنه ليس من العدل تحميل الأجيال الحالية أوزار غيرها. كما أنه ليس من الحكمة أن ننبش التاريخ كثيرا، وليس من المفيد أن ننقب عن كل الصفحات السوداء في تاريخنا، وأن نقدمها من جديد، لتحميل الأجيال الحالية أخطاء آبائهم وأجدادهم الذين مارسوا العبودية ـ وأشياء أخرى ـ بشكل مشين.
إن في تاريخنا القريب والبعيد، آلاما كثيرة ليست محصورة فقط، على ممارسة العبودية بأبشع صورها. فهناك قبائل أبادت تقريبا قبائل أخرى، وهناك مقاومون استشهدوا في معارك شارك فيها موريتانيون مع المستعمر الفرنسي، لذلك فإن نبش التاريخ سيفتح جراحا مؤلمة كثيرة. كما أن بعض الأرقاء السابقين يتحملون أيضا جزءا من المسؤولية، فالفقر لا يبرر بيع الأبناء بسعر زهيد، وعدم تكافؤ القوة لا يبرر كذلك عدم الدفاع عن النفس.
ورغم ذلك، فإذا كان لا يمكن تحميل جرائم الماضي للأجيال الحالية، فإن جرائم الحاضر تتحمل مسؤوليتها ـ وبشكل كامل ـ أجيالنا الحالية، والتي يجب عليها جميعا، كل من موقعه، أن يشارك في فضحها، وكشفها، والدفاع عن ضحاياها. ولم يعد من اللائق أن تظل تلك المهمة مقتصرة على بعض نشطاء شريحة لحراطين، وإن كان يجب عليهم أن يكونوا في الصفوف الأمامية. ولم يعد من اللائق أن يتواصل غياب أبناء الشرائح الأخرى، عن تلك المهمة الوطنية النبيلة، والسامية. و أتمنى أن يتمكن "حراس المستقبل"، بعد أن يحصلوا على الترخيص القانوني، من لعب دور فعال في هذا المجال.
الملاحظة الثالثة: إن الدفاع عن القضايا العادلة، ومناصرة المظلومين، تستدعي قدرا كبيرا من الحيطة والحذر. فالمدافع عن القضايا العادلة عليه أن لا يستخدم إلا الوسائل القانونية، والأساليب الشفافة، حتى لا يسيء إلى القضية التي يدافع عنها.
كما أنه مطالب ـ قبل غيره ـ بمناصرة كل صاحب مظلمة، بغض النظر عن دين ذلك المظلوم، أو انتمائه، أو وطنه. وتزداد المناصرة إلحاحا، عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، والتي تشكل أبشع مظلمة معاصرة. لذلك فإن إطلاق بعض المواقف المعادية للقضية الفلسطينية، لا يسيء لتلك القضية، بقدر ما يسيء لمن يطلق تلك المواقف، خاصة إذا كان من أطلقها يدعي النضال في قضية عادلة كمحاربة الاسترقاق. لقد ناصر "نلسون مانديلا" كل المظلومين في العالم، خاصة العرب الذين لا تربطه بهم أي صلة. فقد عُرف هذا المناضل الكبير، بمواقفه الشجاعة الداعمة للشعب الفلسطيني، والمناصرة للشعب العراقي.
الملاحظة الرابعة: إن الذين ينتقدون اليوم الزعيم "مسعود"، إنما يمدحونه من حيث لا يشعرون. فالبعض انتقده لأنه تخلى عن بلدية نواذيبو في العام 2006. ولقد فات أولئك بأن تخليه عن تلك البلدية، ترك أثرا طيبا على العمل السياسي، وأضفى عليه مسحة أخلاقية كان ـ ولا يزال ـ في أمس الحاجة إليها. والذين ينتقدونه لاعتذاره "للأسياد" في الانتخابات الرئاسية الماضية، قد فاتهم أن ذلك الاعتذار رفع الزعيم "مسعود" إلى أعلى سلم النضال، وجعله ندا لمناضلين عالميين تركوا بصمات متميزة في النضال ضد العنصرية، والعبودية، والتمييز بكل أشكاله. في الوقت الذي شكلوا فيه صمام أمان، في بلدانهم، ضد حروب أهلية كانت شبه مؤكدة. لقد دعا "نيلسون مانديلا" سجانه السابق "كريستو براند" للاحتفال بعيد ميلاده 91، وشدد "مانديلا" على أهمية العلاقة التي تربطه بسجانه السابق، وقال: "إن تلك الصداقة، عززت مفاهيمي للإنسانية، حتى مع أولئك الذين أبقوا عليَّ خلف القضبان".
أما في أمريكا، فقد رفضت "روزا باركس" في الخميس الأول من ديسمبر من العام 1955، أن تترك مقعدها في الحافلة لرجل أبيض. وهو ما شكل بداية لنضال طويل، كاد أن يغرق أمريكا في بحر من الدم، لولا أن "مارتن لوثر كينج" اختط للمقاومة، طريقا يعتمد على مبدأ "اللا عنف"، أو "المقاومة السلمية" . ولقد كان ذلك المناضل الأسود يردد دائما، كلمة يقال أنها للمسيح عيسى عليه السلام : "أحب أعداءك، واطلب الرحمة لمن يلعنونك، وادع الله لأولئك الذين يسيؤون معاملتك".
وفي الحقيقة، فإني لست ممن يرغب في الحديث عن الواقع الموريتاني بمفردات من خارجه. ولم أكن أرغب في أن أجعل من نضال شخصيات خارجية، مرجعا للحكم على نضال شخصيات وطنية، تشكل مرجعا في النضال ضد الرق ومخلفاته. لم أكن أرغب في ذلك، إلا أن استشهاد البعض بأولئك المناضلين العالميين، لتبرير خطابات تتعارض مع خطاباتهم التي عُرفوا بها، هو ما دفعني لذلك.
أما فيما يخص الدورين الأساسيين اللذين يجب أن يعلبهما الزعيم المؤسس لحركة الحر، لصالح شريحة لحراطين، فهما:
أولا : توفير الدعم المعنوي والسياسي لشباب الشريحة، الذي يتفرغ للنضال ضد الاسترقاق ومخلفاته ، خاصة منهم، أولئك الذين يملكون رؤية واضحة، تنسجم مع رؤية الزعيم "مسعود"، ولا يجدون دعما وطنيا ولا دوليا، ويتم تغييبهم ـ بقصد أو بغير قصد ـ من طرف الصحافة المستقلة، التي تهتم ـ في أكثر الأحيان ـ بالإثارة، أكثر من اهتمامها بالقضية نفسها.
ثانيا : إن أهم شيء يمكن أن نقدمه اليوم لرب أسرة حرطاني، أو عموما لرب أسرة فقير،هو أن ندربه على مهارات، يمكن أن يحولها إلى نقود، تنعكس إيجابا على مستوى معيشة أسرته. أو أن نعلمه القراءة والكتابة. وإن أهم ما يمكن أن نقدمه للشاب الحرطاني الحامل لشهادة جامعية، أو لحامل الشهادة الفقير عموما، والذي لا يستطيع أن ينافس على الفرص القليلة المتاحة لأنه لا يملك وساطة، إن أهم شيء يمكن أن يقدم له، هو أن نكونه مجانا في المعلوماتية، أو في لغة أجنبية، حتى يستطيع أن ينافس على الفرص القليلة المتاحة، وحتى يستطيع أن يجد بديلا للوساطة التي لا يملكها. وإن أهم شيء يمكن أن نقدمه للطالب الحرطاني، أو للطالب الفقير عموما، هو أن نوفر له دروس تقوية مجانية، حتى يستطيع أن ينافس في المدرسة، و في الجامعة، زملاءه من الطلاب الذين تعلموا في مدارس خاصة، أو الذين يحصلون على دروس خصوصية في أسرهم. إن هناك أشياء عديدة أخرى، في غاية الأهمية، يمكن أن نوفرها للمئات من الفقراء، من خلال مؤسسات تنموية لا يكلف إنشاؤها وتسييرها لعام كامل، إلا أربعة ملايين أوقية. حيث أن فتح تسع مؤسسات من هذا النوع، في مقاطعات العاصمة التسع، ولمدة سنة كاملة، لا يكلف إلا ستة وثلاثين مليون أوقية.
فلماذا لا يؤسس الزعيم "مسعود" مؤسسة تنموية خيرية باسمه، وهو القادر بحكم مكانته وعلاقاته على الحصول لتمويل لها من الهيئات والمؤسسات الدولية المختصة؟ وإذا كان الزعيم "مسعود" قد أطلق في نهاية السبعينات شرارة النضال السياسي ضد العبودية، وحقق بذلك النضال الكثير من الإنجازات، فلماذا لا يطلق اليوم شرارة "النضال التنموي" ضد بقايا ومخلفات الرق، من خلال تأسيس مؤسسة تنموية خيرية، هي أهم ما يحتاج إليه لحراطين اليوم؟ ولماذا لا نخصص هذا العقد للنضال التنموي ضد الرق ومخلفاته ؟ ولماذا لا نجعل من "مؤسسة مسعود الخيرية للتنمية الاجتماعية" بداية لتنافس سياسينا على العمل الخيري، لكسب " أصوات" لحراطين وغيرهم من الفقراء. ومن المؤكد، أن التنافس في العمل الخيري، سيمنح لسياسينا في الدنيا ـ إذا كانت لا تهمهم إلا الدنيا ـ "أصواتا" تفوق بكثير ما كانوا يحصلوا عليه سابقا، من خلال إنفاق مبالغ طائلة على الخيام، والصور، ومكبرات الصوت، وأشياء سخيفة أخرى.
تصبحون على "نضال تنموي" ضد مخلفات الرق... وإلى الأحد القادم، إن شاء الله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق