بسم الله الرحمن الرحيم
لكم استقلالكم..ولنا استقلالنا!
يبدو أننا سنحتفل في الثامن والعشرين من نوفمبر القادم بالذكرى الثالثة للاستقلال الوطني "المصحح" لا بخمسينية الاستقلال. ويبدو أنه لا زالت تفصلنا عقود من الزمن ـ ومن الوعي أيضاـ لكي نحتفل بطريقة لائقة بهذه الخمسينية. ويبدو كذلك أن اللجنة المحضرة لخمسينية الاستقلال لا زالت تصر على أن تقسم الشعب الموريتاني إلى فسطاطين : فسطاط يحق له أن يشارك وأن يحتفل بخمسينية الاستقلال في 28 من نوفمبر القادم. وفسطاط آخر، عليه أن يبحث عن وطن آخر، وعن استقلال آخر، وعن نوفمبر آخر، وعن خمسينية أخرى، وربما عن رئيس آخر.
فمن المؤسف حقا أن تتعامل اللجنة المحضرة للخمسينية بازدواجية صارخة مع الموريتانيين الراغبين في المشاركة في الاحتفالات المخلدة للذكرى الخمسين لاستقلال الدولة الموريتانية.
ومن المخجل حقا أن تخصص هذه اللجنة زاوية المقالات في موقعها على الانترنت لخمسة مقالات أصحابها من فسطاط واحد، في الوقت الذي ترفض فيه نشر مقالات متميزة كُتبت عن هذه الذكرى لأن كتابها من الفسطاط الآخر الذي يحاول جاهدا أن يجعل الولاء للوطن أهم من الولاء للموالاة أو للمعارضة.
و لابد لمن يزور موقع اللجنة المحضرة للاستقلال أن يُصدم عندما يكتشف بأن المقالات المنشورة في هذا الموقع لا صلة لها بالاحتفالية، اللهم إذا استثنيا مقالا أو اثنين حاول صاحبهما أن يختزل تاريخ وذاكرة أمة في طرق معبدة شيدت في العهد الحالي، أو لا تزال ـ على الأصح ـ أثناء التشييد.
لذلك فإنه من الضروري أن نُذكر اللجنة المحضرة للخمسينية بأن الشعب الموريتاني قد سئم من عمليات اختزال تاريخ البلد في فاصلة إعلانية قصيرة، تأتي قبل التاريخ الحقيقي، وهي فاصلة تُضغط فيها عقود من تاريخ البلد سبقت "العهد الميمون" الذي وُلِد فيه التاريخ مرة في 12 ـ 12 ـ 84. ووُلِد فيه مرات أخرى في أول أربعاء من أغسطس من العام 2005 و العام 2008.
لقد سئم الشعب الموريتاني تلك الاحتفالات التي تُضغط فيها سنوات وعقود من عمر الدولة الموريتانية، وتبسط فيها أيام وشهور أعقبت قدوم ساكن جديد للقصر الرئاسي بسطا عجيبا.
وإذا كان يحق للبعض أن يصغر و يتصاغر وينكمش ويتمدد ويتفاعل كيف ما شاء حتى يتحول إلى فرن من أفران المصلحة، أو كتاب من كتب الطبخ مع الميلاد الأول للتاريخ، أو أن يتحول إلى شجيرة، أو طريق معبد، أو إلى صرة من اللبن المجفف مع الميلاد الثاني أو الثالث للتاريخ الموريتاني . فإذا كان يحق لأولئك أن يتحولوا إلى كتب أو أفران أو شجيرات فإنه لا يحق لهم أن يختزلوا وطنا بكامله ويحولوه إلى حرف هجائي يكتبه أمي ظل أميا حتى في العهد الذي تم فيه القضاء على الأمية ـ حسب الإعلام الرسمي ـ في كل دول الجوار. أو يحولوا ذلك الوطن إلى شجيرة يغرسها فقير جائع كُتب عليه أن يزداد فقرا وبؤسا في العصر الذهبي للفقراء.
لقد كنا نتوقع من اللجنة المحضرة لخمسينية الاستقلال أن تجعل من يوم الثامن والعشرين من نوفمبر القادم مناسبة وطنية، من حق كل الموريتانيين أن يشاركوا فيها لأنها من المفترض أنها تهمهم جميعا، ولأنها قد لا تتكرر ثانية في حياة الكثيرين منهم. ولكن المؤسف أن اللجنة لا زالت تصر أن تجعل منها مناسبة سياسية خاصة ببعض الموريتانيين دون غيرهم ككل الاحتفالات السابقة بذكرى الاستقلال.
فالثامن والعشرون من نوفمبر القادم قد لا يختلف كثيرا عن 18.250 يوما سبقته هي عمر الدولة الموريتانية.
واللجنة المحضرة للخمسينية لا تختلف عن اللجان والسلطات العليا والمجالس الوطنية الكثيرة، والتي تبتلع كثيرا من أموال هذا الشعب الفقير دون أن تقدم شيئا مذكورا يبرر تلك الأموال الطائلة التي تم ابتلاعها.
لقد اختارت هذه اللجنة أن تكون عبئا ثقيلا على كاهل هذا الشعب المسكين مثلها مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، والمجلس الإسلامي الأعلى، والسلطة العليا للصحافة، ووسيط الجمهورية، وغيرهم من المجالس واللجان والسلطات التي لم تقدم حسنة واحدة تشفع لها وتبرر بقاءها. ويكاد المرء يوقن أن مصائب هذا الشعب هي بالذات مصادر فوائد هؤلاء.
ولعل من أشد مصائبنا في هذا البلد أننا تعودنا على أن نختزل الوطن في وظيفة بالنسبة لمن له وظيفة، أو في قبيلة، أو في جهة، أو في عرق، أو في ايدولوجيا، أو في زعيم بالنسبة للمعارضين أو في رئيس بالنسبة للذين يولدون وهم موالون، ويعيشون وهم موالون، ويموتون وهم موالون.
ونحن بهذه المناسبة بحاجة إلى أن نتعلم درسا بسيطا جدا وهو درس من سطر واحد: إن الوطن أكبر من الرئيس، ومن الزعيم، ومن الموالاة، ومن المعارضة، ومن القبيلة، ومن العشيرة.
أضف إلى جملة المصائب في هذا البلد أن الأغلبية لا يهمها من أمور الوطن إلا أن ترضي الرئيس. والمعارضة لا يهمها إلا أن تغضبه. فالمعارضة التي تمت دعوتها للمشاركة في هذه الاحتفالية اختارت أن ترفض، وهي لم تتقدم بأي مقترح للجنة المحضرة للاحتفالية والتي هي في أمس الحاجة لمقترحات تملأ بها ـ على الأقل ـ صفحات موقعها الذي نشرت فيه كتابا لا صلة له بالاستقلال بمجرد أن مؤلفه عضو ناشط في اللجنة الإعلامية للحزب الحاكم.
لقد كان من واجب المعارضة أن تقدم اقتراحاتها لهذه الاحتفالية رغم أنها مقترحات كان من المؤكد أنها ستفرض لأنها لم تأت من الفسطاط الذي من حقه أن يشارك في احتفاليات خمسينية الاستقلال.
ومن مآسي هذا البلد أن الأغلبية لا تفعل شيئا من أجل هذا الوطن، والحكومة لا تنجز شيئا لصالحه، واللجان والسلطات العليا والمجالس لا تفكر في أي شيء. فكل هؤلاء يقتاتون من إنجازات الرئيس التي هي في مجملها أقل بكثير مما حلم بها الفقراء ذات يوم مجيد من أيام أغسطس المجيدة.
ومن أشد معضلاته أن المعارضة لا تختلف عن الأغلبية في أي شيء، فهي أيضا تقتات من إخفاقات الرئيس، ولا تفعل شيئا من أجل أن تقلل من تلك الإخفاقات والتي تكفي ـ بالمناسبة ـ لإطعام كل المعارضات في الدول المجاورة.
ولعل أشد ما نقاسيه أننا مخيرون بين أن نختزل الوطن في شجيرة أو في رئيس أو في وظيفة أو في قبيلة أو في أي شيء أو أن نعيش بلا وطن...
وحق لنا أن نتساءل هل نحن مخيرون بين أن نشارك فسطاطا من هذا البلد في خمسينية قرر أن يختزلها ويختصرها ويضغطها في ثلاث سنوات أو أن ننتظر خمسينية أخرى من الراجح أننا لن نعيش لحظة قدومها؟
إننا مجبرون على أن نقول بالعربي الفصيح والصريح للفسطاس الذي سيحتفل بخمسينيته في الثامن والعشرين من نوفمبر القادم:
لكم وطنكم الذي إذا شئتم اختزلتموه في طريق معبد أو في شجرة أو في متجر رمضاني.. وسيبقى لنا وطننا الذي اختزلناه في حلم جميل لا بد له أن يتجسد حتى وإن طال الانتظار.
لكم خمسينيتكم ... وسننتظر خمسينيتنا التي لابد وأن تأتي.
لكم استقلالكم.. وسننتظر استقلالنا.
تصبحون على الوطن الحلم ..