في مرات عديدة كنت أكتفي بالتعبير بشكل خجول عن تقديري للشرطي "الشيخ صار" تماما كما يفعل الآلاف من المعجبين بذلك الشرطي المميز.
أما في هذه المرة فقد قررت أن أعبر عن ذلك التقدير بشكل صريح جدا ، وإيجابي جدا، وذلك من خلال توجيه نداء لكل المعجبين بذلك الشرطي المثالي من أجل التعاون معا لتقديم لمسة تقدير ووفاء له مقابل تفانيه العجيب في عمله الشاق ، رغم الحرارة القاسية في الصيف ، والبرد القارس في الشتاء ، الشيء الذي جعله يستحق وبجدارة أن يحمل وسام " الموظف المثالي للعام 2009 ".
إنه لمن المؤسف حقا أن يقضي موظف عقودا من عمره وهو يعمل بجد وإخلاص وباستقامة يندر أن تتكرر ومع ذلك يُحْرَمُ ذلك الموظف من أبسط أشكال التقدير أو التكريم سواء كان ذلك التكريم حكوميا أو شعبيا.
وإنه لمن المؤسف أكثر أن يحال موظف كالشيخ صار إلى التقاعد ( وهو أصبح قريبا من التقاعد) بعد عقود من العطاء وبعد سيرة وظيفية مثالية دون أن يُكَرَّمَ، أو يُوَشَّحَ، أو يُشَجَّع، أو يُمْنح وساما أو مكافأة ، أو على الأقل دون أن يُنَظَّم له حفل شعبي ولو لدقائق معدودة.
وحتى لا يستمر ذلك التقصير الرسمي والشعبي في حق " الشيخ صار " وفي حق غيره من الموظفين البسطاء الأوفياء لوطنهم ، جاء هذا المقال النداء الذي سيحاول أن يُقَدِّمَ إجابتين على سؤالين هامين ، أحدهما قد يطرحه من لا يعرف ذلك الشرطي وهو لماذا تم اختيار"الشيخ صار" بالذات ؟ أما ثانيهما فهو قد يأتي ممن يعرف "الشيخ صار" وممن يقدر له ذلك المجهود الكبير الذي يقوم به من أجل تنظيم حركة المرور وهو سؤال قد يكون من قبيل : كيف أُحَوِّلُ تقديري للشيخ صار إلى عمل إيجابي وميداني ينعكس إيجابا على "الشيخ صار" نفسه وعلى غيره من الموظفين المستقيمين ؟
أولا : لماذا "الشيخ صار" بالذات ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد هنا من التحدث ـ ولو قليلا ـ عن أهمية تنظيم المرور خاصة في بلد كبلدنا يعتبر شعبه من أكثر شعوب العالم فوضوية ومن أكثرهم كرها للنظام والتنظيم.
فتنظيم حركة السير في بلدنا هو نوع من تنظيم المجتمع ونوع من تنظيم الإدارة من خلال تدريب النخب على النظام.
وإذا لم يتم احترام القانون في الشارع وأثناء حركة السير فإنه لن يُحْتَرَمَ إطلاقا في المكاتب المغلقة ، فهناك علاقة طردية بين ما يحدث على الشارع وما يحدث في الإدارة .
ولفهم مدى الترابط بين حركة السير وبين حركة الإدارة،علينا أن نعود إلى الحقائق التالية :
ـ إن النخبة التي تقود المجتمع هي نفسها التي تقود السيارات على الشوارع هذا إذا ما استثنينا من يشتغل بالنقل أو من يمارس السياقة كمهنة.
ـ إن ما يحدث في كل صباح أو في كل مساء عند ملتقيات الطرق يحدث شيء شبيه له داخل كل إداراتنا.
فهناك قلة من السائقين هي التي تلتزم بالنظام وهي التي تصل إلى ملتقيات الطرق دون أن تنحرف ولو قليلا عن الطريق ، وهي تظل تنتظر حتى يُسْمَحَ لها بالمرور لتواصل طريقها المستقيم ، وهذه الفئة هي فئة صامدة جُبِلَ أصحابها على الاستقامة ، وهي لا تتأثر سلبا بغيرها.
وهناك فئة ثانية وهي كثيرة جدا، ومناقضة تماما للفئة الأولى، وهي فئة ينحرف أصحابها عن الطريق في بداية المشوار، و قبل الوصول إلى ملتقيات الطرق وقبل إشارات المرور، فالانحراف هو من طبيعتها ،وهي دائما تنجح في تجاوز ملتقيات الطرق بطرق ملتوية ،وهو نجاح يزيد من تعقيد حركة السير بعد ذلك.
وهناك فئة ثالثة تحاول في البداية أن تتشبه بالفئة الصامدة المستقيمة ، ولكنها سرعان ما تنحرف واحدا بعد واحد، لتقلد الفئة الثانية أي الفئة المنحرفة ،وذلك لأنها تشاهد مع كل زحمة سير، أن الفئة المنحرفة هي التي تمر، أما الفئة الملتزمة بنظام السير فإنه يطول انتظارها.
شيء مشابه يحدث في الإدارة وفي داخل المباني الحكومية ، فهناك قلة من الموظفين معروفة بالاستقامة ،وهي صابرة على الاستقامة، لا تتأثر سلبا بما يدور حولها من إغراءات تشجع على الانحراف.
ولهذه الفئة ينتسب شرطي المرور" الشيخ صار" الذي ظل مستقيما صابرا على عمله، ولم يؤثر عليه ما جمعه بعض زملائه ممن اختار أن ينحرف عن الطريق المستقيم وأن يسلك الطرق الملتوية الأخرى .
أيضا في الإدارة توجد فئة ثانية ،وهي فئة كبيرة جدا، وهي تنحرف دوما عن الطريق كشبيهتها في حركة المرور، وهي تستولي دوما على أغلب الترقيات والتعيينات والمكافآت والتشجيعات لأنها تتحكم في كل مفاصل الإدارة .
أما الفئة الثالثة والتي هي لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ،فهي أيضا موجودة في الإدارة ،وهي في أغلب الأوقات تنحرف لتلحق بالفئة الثانية عندما تشاهد أن تلك الفئة المنحرفة هي التي تعبر الطريق بشكل سريع ،وهي التي تحصل على كل الترقيات وعلى كل والتشجيعات والمكافآت.
لذلك فتشجيع وتكريم " الشيخ صار" ليس عملا يُقْصَدُ منه فقط تكريم ذلك الشرطي المثالي،فالشيخ صار كغيره من الفئة القليلة التي جُبِلَتْ على الاستقامة سيظل مستقيما سواء كُرِّمَ أم لم يُكَرَّمْ وإنما يُقصد من تكريمه بالأساس تثبيت أهل الفئة الثالثة وتشجيعهم على عدم الانحراف عن الطريق المستقيم.
وإن من الأسباب الأخرى التي ساهمت في اختيار " الشيخ صار" كموظف مثالي للعام 2009 يمكن لنا أن نذكر:
1ـ اتفاق جميع السائقين على استقامة ذلك الشرطي ورفضه المتكرر و المتواصل والمبدئي لأخذ أي رشوة من أي سائق.
2ـ تفانيه وجديته في عمله والتي لا تحتاج لأي شهادة من أي أحد، فهي تظهر وبوضوح لكل من يتأمل حركات ذلك الشرطي وهو ينظم حركة المرور يوميا في واحد من أكثر ملتقيات طرق العاصمة زحمة.
3ـ نجاحه في فرض النظام ـ على الأقل ـ في ملتقى الطرق الذي يعمل به مما جعل من ذلك المكان مكانا فريدا من نوعه في العاصمة بل وفي البلاد كلها، حيث أصبح النظام و احترام قانون السير هو السلوك الذي يحرص عليه كل سائق عندما يقترب من ملتقى الطرق ذلك .
4 ـ الحس الوطني العالي لذلك الشرطي والذي يظهر جليا من خلال حواراته مع مخالفي قانون السير فهو ينصحهم بأسلوب مهذب ومقنع لا ينقص من صرامته في التعامل مع الأخطاء وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تغيير سلوك أولئك المخطئين .
5 ـ إيجابية "الشيخ صار" فهو لم ينتظر كغيره أن يَصْلُحَ كل الموظفين في قطاعه لكي يكون هو موظفا صالحا ومستقيما، وإنما قرر أن يكون موظفا مستقيما رغم الفساد الكبير الذي يحدث عن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ورغم الكلفة المعنوية والمادية والاجتماعية الباهظة التي يدفعها كل موظف صالح، في بلد باض فيه الفساد وعشش وفرخ وأنجب وربى ورعى وحمى حتى في وزارة العلماء والأئمة التي كان من المفترض أن تكون هي من " يُصَنِّعُ " و "يُسَوِّقُ " القيم الفاضلة والسامية.
6 ـ الدور التدريبي الرائد الذي يقوم به ذلك الشرطي، فهو يدرب النخبة أي (سائقي السيارات ) في كل صباح على النظام عند مرورهم به، في طريقهم إلى أماكن عملهم، كما أنه يدربهم على النظام في كل مساء، وهم عائدون إلى منازلهم.
تلكم كانت إجابة سريعة على السؤال الأول وهي إجابة تسمح بطرح السؤال الثاني.
ثانيا : كيف نشجع " الشيخ صار" ونكرمه ؟
قبل تشجيع " الشيخ صار" علينا جميعا أن نقتنع بأن تكريم ذلك الشرطي أو تكريم غيره من الموظفين المستقيمين إنما هو عمل وطني وديني وأخلاقي من أكثر الأعمال أولوية في مجتمع تفشى فيه الفساد لدرجة أصبح فيها التنقيب عن موظف مستقيم في هذا البلد يكاد أن يكون عملا عبثيا لا يفضي إلى نتيجة.
كما أنه علينا أن نعلم أيضا بأن الجيش الذي سيحارب الفساد لن ينتصر إطلاقا إن لم يكن في مقدمته ضحايا الفساد أنفسهم.
ولن تُحسم هذه الحرب من خلال "المعارك الجوية " بل لا بد لها من معارك ميدانية، ولن يأتي النصر من القنابل الصوتية التي يطلقها كبار الموظفين، ولا من المفرقعات الخطابية لساسة هذا البلد، ولا من القنابل الضوئية التي يطلقها "المثقفون " من حين لآخر.
فغالبية أولئك يكبرون بتفشي الفساد وسيصغرون عند القضاء عليه، لذلك فالحرب على الفساد ليست حربهم ، وإنما هي حرب ذلك الشاب الذي جمع من الشهادات الجامعية أصنافا شتى ومع ذلك اضطر لأن يكون حلاقا أو سائقا لكي يبقى حيا على هذه الأرض الظالمة بغالبية نخبها. وهي حرب ذلك الشاب الجامعي المثقف الذي تعددت شهاداته ومع ذلك لم يحصل على وظيفة واحدة ، رغم أنه في البلد يوجد من تعددت وظائفه وهو لا يملك شهادة واحدة، هذا إذا ما استثنينا شهادة التبريز التي يملك والتي يمكن لأعتى المجرمين أن يشتريها بمائة وعشرين أوقية من أمام قصر "العدل". وهي حرب ذلك الشاب الجامعي الآخر الذي ترك وطنه ليعمل طباخا أو حَمَّالا أو جامعا للثمار في دولة أجنبية ، من أجل أن يوفر لأبيه الشيخ أو لأمه العجوز وسائل البقاء في هذه الأرض الظامئة للإصلاح. وهي حرب ذلك الكاتب المبدع أو المثقف المستنير أو العالم الورع الذي قد يُدْفَنُ في باطن هذه الأرض المنافق دوما إعلامها الرسمي ، دون أن يُسْمَحَ له بقول كلمة حق في ذلك الإعلام رغم وجاهة ما يقول وسخافة ما يبثون. وهي حرب ذلك العجوز الذي يبيت جائعا لأن نصيبه من القمح أُرْسِلَ لنوق أحد " الأكابر ". وهي حرب تلك الأم الفقيرة التي تُعِيلُ أيتاما في كوخ متهالك في حي شعبي ومع ذلك فهي تشتري لتر الماء بأضعاف ما يشتريه به الثري القاطن في حي راق. وهي حرب ذلك الأب الفقير الذي لا يستهلك من الكهرباء إلا ما يضيء به مصباحا واحدا أو يُشَغِّلُ به تلفزيونا بالأبيض والأسود ومع ذلك يسدد شهريا ضعف ما يسدده صاحب قصر فاخر، مليء بالمكيفات والثلاجات والتلفزيونات والغسالات وبكل الآلات التي ينتهي جمعها بألف وتاء. وهي بالأساس حرب ذلك الشاب اليافع الذي يدرس الآن وهو يخاف أن يقضي الفساد على بلده ويجعله هباء منثورا حتى من قبل أن يتخرج . هذه الحرب باختصار شديد هي حرب كل من يعيش الآن بشكل غير كريم وهو يعلم يقينا بأنه عندما يُقْضَى على الفساد ستتبدل حياته وسيعيش كما يعيش البشر.
هذه الحرب حربكم أنتم يا ضحايا الفساد ، فإن شئتم فكونوا في صفوفها الأمامية، وإن شئتم فتخلفوا عنها، والمهم أن تعلموا بأنها لن تخاض بالوكالة عنكم، واحفظوها جيدا لن تخاض الحرب على الفساد بالوكالة عنكم.
وهذه الحرب لن تحسموها إذا كانت موسمية انتخابية، ولن تحسموها بجنود نفسهم قصير، هذه الحرب تحتاج لجنود أشاوس قادرين على أن يبتدعوا أسلحة ذكية وفعالة ومتاحة لكل الضحايا.
وهذه الحرب تحتاج لجنود يعتبرون أن كل مفسد هو خصم لهم ، سواء كان من القبيلة أو العشيرة أو الجهة أو الشريحة أو الحزب أو حتى من العائلة نفسها ، ويعتبرون في المقابل أن كل مواطن مستقيم هو حليف لهم بغض النظر عن قبيلته أو شريحته أو انتمائه السياسي. وهذه الحرب تحتاج لجنود يؤمنون بأنه كل ما زاد عدد الرصاص الحي الذي يطلق على المفسدين سينقص تلقائيا عدد الرصاص الطائش الذي يطلقه الإرهابيون أو عتاة المجرمين على الأبرياء ، كما أنه كلما نقص عدد الرصاص الحي الذي يُطلق على المفسدين سيزيد الرصاص الطائش الذي يُطلق على الأبرياء. هذه الحرب تحتاج لجنود يجعلون من محاربة الفساد أول عمل ينظرون فيه لتقييم أداء أي حكومة أو أي حزب سياسي ، فإن كان الأداء جيدا نُظِرَ إلى الأعمال الأخرى أما إن كان سيئا فلا يُنْظَرُ في أي عمل آخر. هذه الحرب تحتاج بشكل خاص لضحايا يرفضون أن يُظْلَمُوا دون أن يُسمع صراخهم ، ويرفضون أن يموتوا دون أن يُسْمِعُوا ـ على الأقل ـ أنينهم للجاني. هذه الحرب تحتاج لمن يعتقد بأن الضحية الذي يُظلم ويُسلب حقه ويبقى ساكتا كأنه مهاجر أو مواطن من الدرجة الخامسة أو السادسة هو أيضا خصم يجب محاربته ولكن من خلال أسلحة التوعية والتحسيس.
وهذه الحرب تحتاج لجنود يؤمنون بأن الفساد هو العدو الأول لهذا البلد ، وأنه إذا لم ينظم حلف وطني لمواجهته فإن الأمور ستخرج عن السيطرة ، وسيضيع الجميع بما في ذلك رموز الفساد وعامته .
وفي هذه الحرب سنعتمد على أسلحة مصنعة محليا وذاتيا ولكنها مع ذلك أسلحة ذكية لا تصيب إلا العدو الحقيقي، وفيها لن نستعمل إلا أسلحة متاحة لنا جميعا وهو ما سيظهر من خلال الإجابة على السؤال الثاني.
إذا لنعد إلى السؤال الثاني : كيف نشجع " الشيخ صار " وكيف نكرمه ؟
1ـ بإمكان كل واحد منا أن يبتسم للشيخ صار وهو يمر به، وبإمكان كل واحد منا أن يلوح له بيده ، أو يشجعه بكلمة أو بكلمتين، ولتلك الأفعال البسيطة وقع كبير في نفس ذلك الشرطي ، فهو من طينة من البشر تهتم كثيرا بتلك التشجيعات العفوية البسيطة.
2ـ بإمكاننا أن نزوره فرادى أو جماعات في مكان عمله، أو في بيته، لنشجعه على إخلاصه في عمله، كما أنه يمكن لنا هنا أن نقدم له بعض الجوائز الرمزية التشجيعية ، وهذه المهمة تقع بالأساس على عاتق أصحاب النوادي الشبابية والثقافية .
3 ـ يمكن لمن يهمه الأمر أن يشارك بفكرة، أو بمقال يكتبه عن " الشيخ صار"، أو بالحضور ـ على الأقل ـ للوقفة التكريمية التي ستنظم لصالحه بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة الفساد (9 دجمبر)، حيث سيتطوع بعض الشباب بتنظيم وقفة ميدانية في بعض ملتقيات الطرق بالعاصمة وخاصة في ملتقي الطرق الذي يعمل به ذلك الشرطي المميز، وسيتم خلال تلك الوقفة الإعلان عن انطلاق مبادرة جديدة لمحاربة الفساد يقودها بعض ضحايا الفساد، كما سيتم الإعلان عن الأنشطة التي ستقدمها تلك المبادرة، والتي ستكون في مجملها أنشطة شعبية تعتمد على أفكار إبداعية يمكن تنفيذها بوسائل ذاتية .
تصبحون وأنتم إيجابيون ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق