لقد استوقفني بيان المعارضة الأخير، والذي سبق احتفالات الجيش بمناسبة الذكرى 51 لتأسيسه، وهي الاحتفالات التي سأخصص لها ـ إن شاء الله ـ مقالا خاصا بها، سأتحدث فيه عن القوات المسلحة، وعن دورها المفترض في ظل نظام كنظامنا السياسي. كما استوقفني كذلك غياب المعارضة عن تلك الاحتفالات، وهو الغياب الذي أثبت من جديد بأن المعارضة بلا خيال سياسي، وبأنها تعاني حقا من أزمة خانقة في الأفكار، وبأنها تعاني فوق ذلك كله من تناقض واضح، وارتباك فظيع، في خطابها السياسي.
فالقراءة الأولى لبيان المعارضة، الذي سبق الاحتفالات المخلدة للذكرى 51 لتأسيس الجيش، تقول بأن المعارضة أرادت من بيانها أن تطلب من الجيش الموريتاني، أن يكون جيشا جمهوريا، وأن يبتعد عن السياسية. أما القراءة الثانية للبيان فتكشف أن المعارضة إنما أرادت ببيانها أن تتسول للجيش، لكي يقوم نيابة عنها، بما فشلت هي في القيام به، وذلك بإسقاط النظام الحالي بواسطة انقلاب عسكري.
فهل أرادت المعارضة ببيانها أن تطلب من الجيش أن يبتعد عن السياسة وبأن يكون جيشا جمهوريا ؟ أم أرادت أن تغرقه أكثر في مستنقع السياسة، والذي لم يخرج منه حتى الآن، وذلك لكي يكون جيشا معارضا للنظام الحاكم، يمارس مهام المعارضة السياسية، بدلا من أن يكون جيشا جمهوريا؟
لقد عكس بيان المعارضة ارتباكا فظيعا في خطابها السياسي، ولكن المشكلة لم تكن في البيان فقط، بل كانت في الموقف الذي أعقب البيان.
لقد كان بإمكان المعارضة أن تتخذ موقفا آخر من تلك الاحتفالات، وكان بإمكانها أن ترقى إلى مستوى نضج ووعي بعض قواعدها الشعبية، والتي حضرت لتلك الاحتفالات وشاركت فيها بحماس، لا يقل عن حماسها في معارضة النظام القائم. فلم يكن غريبا أن يسمع المتجول وسط الجموع الشعبية التي حضرت للاحتفال من ينتقد النظام بحماس، لا يقل عن حماسه الذي أظهره وهو يتابع الاستعراض العسكري.
وعموما فإن صور العلم الوطني هي التي طغت على الاحتفالات في ذلك اليوم، بدلا من الصور الشخصية للرئيس، أو لزعماء المعارضة، وهو ما يعكس نضج ووعي الجماهير التي شاركت في الاحتفالات، سواء منها من كان يساند النظام القائم، أو من كان يعارضه.
ولقد أثبتت الجماهير في ذلك اليوم بأنها أكثر نضجا من نخبها السياسية موالية كانت، أو معارضة.
لقد كان بإمكان المعارضة أن تتخذ موقفا يرقى لمستوى تطلعات قواعدها، ولكن ضعف الخيال السياسي للمعارضة، حال بينها وبين اتخاذ ذلك الموقف. فكان بإمكانها أن تحضر لتلك الاحتفالات، بصفة مستقلة، وأن تشارك الجيش في أفراحه، لخلق ثقة بينها وبينه. وكان بإمكانها أن تقوم بذلك من خلال منصة خاصة بها تشيدها لذلك الغرض، بعيدا عن المنصة الرسمية، أو من خلال الوقوف مع المواطنين تحت الشمس في حال رفض السلطات لتشييد منصة خاصة بالمعارضة. فمثل ذلك الموقف كان سيحرج النظام أكثر، وكان سيساهم في خلق ثقة أكبر بين الجيش و المعارضة. أما غياب المعارضة عن الاحتفالات فلم يحرج النظام، وبالتأكيد فهو لن يشجع الجيش على الانفتاح على المعارضة التي رفضت أن تشاركه في يوم أفراحه.
إن على المعارضة أن تعلم بأن أساليب نضالها في التسعينات، لم تعد صالحة للعقد الثاني من الألفية الثالثة، لذلك فهي بحاجة ماسة لضخ أفكار جديدة، ودماء جديدة، وأساليب نضالية جديدة تنقذها من الموت السريري الذي تعاني منه.