إني أحلم بأن أستيقظ ذات يوم على وطن حقيقي، يكون انتماء المواطن فيه للوطن من قبل أن يكون للقبيلة، أو للجهة ، أو للعرق، أو للشريحة.
الأحد، 20 فبراير 2011
سبع قراءات وسبعة دروس من فصالة!
إن ما حدث في فصالة يستحق قراءات سريعة وعميقة، خاصة من طرف السلطة الحاكمة، التي يجب عليها ـ وبشكل فوري ـ أن تقرأ تلك الأحداث بجدية، قبل أن تتطور و تستعصي على القراءة.
وما حدث هناك، ربما يكون شرارة لأحداث أخرى، كنت قد توقعتها في نهاية العام الماضي، في مقال منشور تحت عنوان "الشعارات لن تطعم جياع 2011"، كتبته في بداية الاحتجاجات التي عرفها "سيدي بوزيد" في تونس. لقد قلت في ذلك المقال بأنه لن يكون بالإمكان التنبؤ بمكان انطلاق أول شرارة للاحتجاجات المتوقعة، في العام 2011 في أكثر من بلد، بما في ذلك بلدنا.
بعد نشر ذلك المقال تسارعت الأحداث، بسرعة رهيبة، لم أكن أتخيلها، خاصة في تونس، وفي مصر، وفي دول عربية أخرى، ربما يلتحق قادتها ـ قريبا ـ بنادي القادة الذين لا يفهمون ولا يعون الأمور إلا في وقت متأخر، ومتأخر جدا.
وإذا كانت الأحداث قد تسارعت كثيرا خارج حدودنا، فإنها لم تتباطأ داخل هذه الحدود. فقد ظهرت دعوات شبابية على الفيس بوك تدعو ليوم احتجاجي، و كان من أهمها دعوة شباب 17 فبراير، الذين لا أعتقد أنهم كانوا يتوقعون أن هناك احتجاجات جدية، ستنطلق ـ قبل يومهم الموعود ـ من مدينة حدودية، هي أكثر مدن البلاد بعدا عن الفيس بوك.
لقد فاجأت فصالة الجميع، دون أن تفاجئ أحدا. فاحتجاجاتها كانت متوقعة في كل لحظة، ومستغربة أيضا في كل لحظة. كانت متوقعة لأن الكل كان ينتظر احتجاجات في أي وقت، ومستغربة لأن الكل لم يتوقع أنها ستأتي من فصالة.
وأحداث الجمعة في فصالة لا تكفيها قراءة واحدة، وإنما تحتاج لعدة قراءات، يمكن إجمالها في سبع قراءات:
القراءة الأولى: لم تكن فصالة لتتحدث عن نفسها في يوم الجمعة 18 من فبراير بصراخ جسور، لو أنها وجدت من يصغي لهمسها، الذي ظلت تهمس به في الأسابيع الماضية، بل في الأشهر الماضية. ولو أن الحاكم أو العمدة استمعا لشكاوي أهل فصالة، وبلغوها ـ في الوقت المناسب ـ للجهات المختصة، لما حدث ما حدث.
الدرس المستخلص: على الرئيس أن يعلم بأن الإدارة لا زالت لا تهتم بمشاكل المواطنين، ولا زالت ترفض أن تبلغها للجهات المختصة. وعلى الرئيس أن يعلم بأن أول ما يجب عليه فعله الآن، لتفادي الأسوأ، هو أن يفتح فورا ديوانا للمظالم، لكي يسمع من خلاله ـ وبشكل مباشرـ هموم المواطنين البسطاء، قبل أن تتحول تلك الهموم إلى وقود لاحتجاجات عنيفة تصعب السيطرة عليها.
القراءة الثانية: لقد أثبتت أحداث فصالة بأن رجال الإدارة ورجال السياسة ونساءها ليست لهم أي اهتمامات بمشاكل المواطنين، وأن كل ما يهمهم هو أن يُظهروا الولاء لرئيس الدولة، بطريقة قد تضره أكثر مما تنفعه. فما الذي قدمه والي النعمة ومنتخبوها للرئيس في مهرجان المدن القديمة؟ أو ليس من الأولى بهم أن يظلوا قرب المواطنين لكي يخففوا من معاناتهم بدلا من السفر فرادى وأفواجا إلى شنقيط؟
الدرس المستخلص:على السلطات العليا أن تعلم أن العام 2011 ليس عاما عاديا، وليس عاما للترفيه، يمكن تخصيصه للمهرجانات، أو لقصائد المديح، أو للسهرات، أو لمسابقات الرماية أو حتى للاهتمام بالتراث رغم أهميته.
إن العام 2011 ـ وهذا ما تقوله القراءة الثانية لأحداث فصالة ـ يجب أن يُتفرغ فيه للمحاربة الجدية للفقر وللفساد، بدلا من محاربتهما بالشعارات التي أصبح تكرارها يثير غضب المواطنين وحنقهم بدلا من أن يبعث في نفوسهم أملا.
القراءة الثالثة: لقد أثبتت أحداث فصالة أن السلطات الأمنية والإدارية ليست لديها القدرة على مواجهة أي احتجاجات شعبية. وأنه ليس من مصلحتها أن تدفع المواطنين للمواجهة، وليس من مصلحتها أن تدفعهم لاحتلال المباني الحكومية وتخريبها. كما أثبتت تلك الأحداث أن الحلول الأمنية لن تجدي نفعا، وأن الحل الوحيد المتاح للتخفيف من غضب المواطنين، يجب أن يعتمد على إجراءات فورية، تساعد في التخفيف من معاناتهم اليومية.
الدرس المستخلص : إن العناد، وتجاهل هموم المواطنين، والاشتغال بأمور أخرى، والاعتماد على رجال الأمن للتعامل مع المواطنين قد تكون له كلفة باهظة، وباهظة جدا.
القراءة الرابعة: لقد أثبتت أحداث فصالة أن الاستجابة الفورية لمطالب المواطنين قد تساعد في التخفيف من حدتها. أما تجاهلها فقد يتسبب في رفع سقف المطالب إلى حدود أعلى. لقد كان توفير جرعة ماء صالحة للشرب هو المطلب الرئيس لأهلنا في فصالة. أما اليوم وبعد أن حدث ما حدث فقد ارتفع سقف المطالب كثيرا رغم أنه لم يبلغ حتى الآن الحد الأدنى من أساسيات الحياة الكريمة. كما أثبتت ثورات 2011 أن الوقت قد يكون حاسما جدا في تحديد مسارها.وقد أدى التأخر لأيام وربما لساعات، في الاستجابة لمطالب التونسيين والمصريين، إلى تغيير أشياء كثيرة في تونس ومصر.
الدرس المستخلص : إن التعامل المبكر مع مطالب المواطنين قد ينجي من كوارث كبيرة، سيكون أول ضحاياها السلطات الحاكمة، إذا لم تكن ردود فعلها سريعة وحاسمة ( لا أقصد حاسمة أمنيا).
القراءة الخامسة: لقد أثبت أحداث فصالة بأن الفساد لا زال متفشيا في كل مكان. فأحداث الجمعة في فصالة، كانت نتيجة مباشرة لعمليات نهب وسرقة واسعة تعرض لها الأهالي هناك، حيث تم شراء مضخة غير صالحة للبئر الارتوازي في المركز، مما أدى إلى تعطلها في وقت مبكر. ولقد رفضت الجهات المعنية شراء مضخة أخرى رغم توفر الموارد اللازمة لذلك، وهي موارد تبرعت بها جهات أجنبية لسكان المركز، فنهبها مفسدو فصالة.
كما أن سيارة الإسعاف التي تم حرقها كانت مخصصة للاستغلال التجاري والشخصي لصالح شخصيات متنفذة في المركز الإداري.
الدرس المستخلص: لقد كان الفساد هو المتسبب الأول في تلك الاحتجاجات، وهو ما يعني أن القراءة الخامسة لأحداث فصالة، تفرض علينا أن نطالب بمحاربة جدية للفساد تختلف عن الحرب المعلنة الدائرة حاليا، والتي استقطبت أغلب مفسدي موريتانيا.
القراءة السادسة: لقد أثبتت أحداث فصالة بأن الولاء للوطن لا زال ضعيف جدا، وأن السلطات الحاكمة حاليا وسابقا لم تهتم بتعميقه، أو بتنميته بقدر ما اهتمت بأن يكون ولاء المواطنين لها لا للوطن. نفس الشيء يمكن قوله عن الأحزاب، وعن النخب بكل أشكالها وألوانها.
فمن المؤسف أن يطالب البعض في فصالة بجنسية أخرى، وبوطن آخر لأن هناك في الإدارة من ظلمه ظلما كبيرا.
الدرس المستخلص : آن الأوان لأن نلتفت قليلا لهذا الوطن، وآن الأوان لأن نزرع قيم الوطنية في نفوس المواطنين، بدلا من أن نختزل الوطن لهم في رئيس، أو في زعيم، أو في قبيلة، أو في عرق، أو في ايدولوجيا...
القراءة السابعة: لقد أثبتت أحداث فصالة بأن هناك جهات عديدة تنتظر أي حدث لتستغله إعلاميا وسياسيا ضد الحكومة القائمة، والتي أصبح في صحيفتها الكثير من الأخطاء والإخفاقات. وما جمعته حكومتنا الموقرة من أخطاء في عام ونصف، يكفي ـ لو وُزع على عدة دول ـ لأن يتسبب في احتجاجات عنيفة في تلك الدول.
الدرس المستخلص : تقول القراءة السابعة لأحداث فصالة بأنه أصبح على حكومتنا أن ترحل فورا، لأنها إن لم ترحل الآن فقد تدفع المواطنين إلى المطالبة برحيل من يصر على الاحتفاظ بها.
تصبحون وأنتم قراء جيدون....
الاثنين، 14 فبراير 2011
نص الخطاب التاريخي لرئيس الجمهورية!
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
لقد قررت أن أتقدم إليكم بخطاب مصارحة ومكاشفة، في هذا الظرف العصيب الذي تشهد فيه بعض الدول الشقيقة تحولات عميقة، والذي يشهد ـ كذلك ـ على الصعيد العالمي ارتفاعا مذهلا لأسعار بعض المواد الأساسية، وهو الارتفاع الذي انعكست آثاره سلبا على كل دول العالم بما فيها وطننا الغالي.
في مثل هذا الظرف العصيب، كان لزاما عليَّ أن أتقدم إليكم بخطاب من القلب، لن أحدثكم فيه عن الانجازات الهامة التي تم تحقيقها منذ قدومي إلى السلطة، والتي هي معروفة لديكم، وقد تم الحديث عنها في مناسبات سابقة. بل أني سأحدثكم في خطاب المكاشفة هذا عن بعض الإخفاقات التي حدثت منذ التنصيب إلى يومنا هذا، على أساس أنه لا يوجد عمل بشري بلا أخطاء وبلا نواقص، لذلك فقد كان من الضروري، وبعد مرور عام ونصف من مأموريتي، أن أبحث عن الأخطاء والإخفاقات التي حدثت، وأن أسعى بشكل جاد وصادق لمعالجتها ولتجاوزها.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
اسمحوا لي قبل أن أحدثكم عن الأخطاء التي حدثت، وعن الأساليب الجديدة التي سأتبعها لتصحيح تلك الأخطاء، اسمحوا لي قبل ذلك، أن أحدثكم قليلا عن الأحداث التي عرفتها تونس ومصر في الآونة الأخيرة، وذلك للرد على بعض التعليقات والتصريحات التي جاءت من بعض قيادات المعارضة، والتي حاولت أن تجعل من ظروفنا وواقعنا صورة طبق الأصل من واقع الشقيقة تونس، والشقيقة مصر.
والحقيقة التي لابد من قولها هنا، هي أن واقعنا ليس مطابقا تماما للواقع التونسي، و لا للواقع المصري، وأقصى ما يمكن قوله في هذا المجال، هو أنه يتشابه معهما في بعض الجوانب، ويختلف عنهما في جوانب أخرى.
فإذا كانت تونس ومصر قد عرفتا أنظمة حكم لم تتغير لمدة عقود من الزمن، فإن الأمر يختلف عندنا، خاصة منذ تصحيح 3 من أغسطس 2005، حيث أصبحت مشكلتنا منذ ذلك الوقت هي قصر الفترة التي يقضيها الرؤساء في الحكم، لا طولها.
وإذا كان الشعب التونسي والشعب المصري قد ثارا ضد رئيسين وصلا إلى الحكم واستمرا فيه دون انتخابات شفافة، فالأمر عندنا يختلف، لأننا شهدنا انتخابات رئاسية شفافة، بشهادة الجميع، أشرف عليها وزير داخلية معارض، ورئيس لجنة مستقلة للانتخابات معارض كذلك.
ورغم ذلك، فنحن لابد لنا أن نعترف بأن الشعب الموريتاني قد عرف أسلوبا واحدا من الحكم، يعتمد على أن الشعب في خدمة الحاكم، لا الحاكم في خدمة الشعب، وهو الأسلوب الذي لم يتغير منذ عقود من الزمن، رغم التغيرات الكثيرة للرؤساء، لذلك فهو من هذه الناحية يتشابه تماما مع تونس ومصر. ومن حق شعبنا الذي يستحق حياة كريمة، أن يثور على أي رئيس يكرر نفس الأسلوب البائد، في إدارة شؤون البلاد، حتى ولو لم يقض مدة طويلة في الحكم. هذا ما "تفهمه وتعيه" قيادتكم الوطنية، وهذا هو ما فرض علينا العمل بأسلوب مختلف عن نمط الحكم، الذي اتبعه كل الرؤساء السابقين، والذي أدى في المحصلة النهائية إلى هذا الواقع المرير الذي نعيشه اليوم.
بل إنني فوق ذلك، أومن بأن الشعب الموريتاني أولى من غيره بالحياة الكريمة، وأولى من غيره بالثورة، إذا لم يشعر بأن أوضاعه قد بدأت تتحسن بالفعل، وذلك نظرا لأن ثرواته أكثر بكثير من ثروات العديد من أشقائه، ولأنه أقل عددا من شعوب تلك الدول، ولأنه من حيث مؤشرات التنمية، لا زال ـ "ويا للأسف"ـ في أسفل اللائحة، ولا زالت تتقدم عليه تلك الدول الشقيقة التي شهدت احتجاجات.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
لا أخفيكم ـ في خطاب المكاشفة هذا ـ بأني لا أجد فرقا يذكر بين الاتحاد من أجل الجمهورية، والحزب الوطني في مصر، أو حزب التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس. فالاتحاد من أجل الجمهورية ـ "ويا للأسف"ـ لم يقدم انجازا واحدا منذ تأسيسه، بل أنه ظل يشكل عبئا ثقيلا على مؤسسة الرئاسة، ومحرجا لها في كثير من الأحيان.
وأنا على ثقة تامة، بأن هذا الحزب لن ينفعني، إذا ما احتجت إليه في الأوقات العصيبة. بل أنه قد يضرني من حيث يعتقد أنه سينفعني، وقد يُخرج في اللحظات الحاسمة، ما هو أسوأ من الحمير والبغال والجمال.
لقد أثبتت أحداث تونس ومصر بأن الأحزاب التقليدية لم تعد قادرة على حماية نفسها، ولا حماية أي نظام. كما أثبتت تلك الأحداث بأن الشعوب، والتي قد لا تكون منتظمة بالضرورة في أحزاب سياسية، هي وحدها التي يمكن أن تسقط أي نظام، وهي وحدها التي يمكن أن تحميه.
وبناء على ذلك، فإني أتوجه اليوم إليكم بهذا الخطاب، الذي سيؤسس ـ بإذن الله ـ لمرحلة جديدة من العمل الحكومي والسياسي، وهي مرحلة ستسعي ـ بشكل جاد ـ لبناء جسور جديدة وقوية، من الثقة بيني وبينكم، ودون الحاجة لوسطاء سياسيين. لقد تعاملت معكم بدون وسطاء في الحملة الانتخابية الماضية، ولم تخيبوا وقتها ثقتي فيكم، فصوتم لي بكثافة، مما جعل فوزي في الانتخابات الرئاسية الماضية، لا منة فيه لأي وسيط سياسي أو اجتماعي، فالفضل فيه للمواطن العادي، وللمواطن العادي وحده، لذلك فأنا أستطيع أن أقول بأني لست مدينا إلا لك أنت أيها المواطن الموريتاني.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
لا جدال في أن ما مضى من مأموريتي، قد تخللته بعض الأخطاء والإخفاقات التي سيتم تفاديها من الآن، ومن هذه الأخطاء يمكن لي أن أذكرك لكم:
1 ـ الارتجالية في اتخاذ بعض القرارات الهامة، وهو ما جعل الكثير منكم يستغرب بعض القرارات التي تم اتخاذها وإلغاؤها دون تقديم أي تفسير لذلك. لقد حدث ذلك مع إنشاء وإلغاء كتابة الدولة للشؤون الإفريقية، ومع هيكلة وزارة التعليم، وفي مجالات عديدة أخرى لا يتسع المقام لتعدادها. فمن حقكم أن تستغربوا ذلك، وأن تنتقدوه، لأنه لم يعد من المقبول في عالم اليوم ارتجال القرارات، حتى ولو كانت مجرد قرارات فردية، أو أسرية، أو قرارات داخل مؤسسة صغيرة. فكيف إذا تعلق الأمر بقرارات حكومية، يمكن لها أن تؤثر إيجابا أو سلبا على حياة كل مواطن؟ لذلك فإني أعدكم بأنه لن يُرتجل ـ من الآن وصاعداـ أي قرار مهما كان حجمه. كما أعتذر لكم عن الارتجال في بعض التعيينات، والذي بلغ ذروته في وزارة المالية والإدارات التابعة لها، حيث أنها منذ تنصيبي لم تعرف أي استقرار يتيح لها أن تؤدي أبسط مهامها.
2 ـ لا شك أنكم قد لاحظتم في بعض الأحيان عدم انسجام في العمل الحكومي، ولا شك أنكم لاحظتم عدم الانسجام كذلك في بعض القرارات، وهو ما أعدكم بأنه سيتوقف تماما من الآن. فلم يعد من المقبول أن يدعو رئيس الجمهورية إلى حوار مع المعارضة، فتعقب تلك الدعوة بيانات وتصريحات من الأغلبية تتناقض مع تلك الدعوة، وتزيد من حجم الشكوك حول جديتها. كما أني أعتذر للشعب الموريتاني عن بعض التناقض في بعض القرارات التي اتخذتها، كتعيين شخصية سياسية على رأس وزارة التعليم الثانوي، رغم أني كنت قد دعوت قبل ذلك إلى عدم تسييس التعليم، وعدم تسييس المنتديات القادمة، وهي الدعوة التي لم يستجب لها ـ "ويا للأسف"ـ حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الذي اختار لجنة للتفكير في إصلاح التعليم يرأسها وزير سياسي لا صلة له بالتعليم، ومن المفترض أنه ليس لديه وقت لإنجاز ما كُلف به.
3 ـ من الأخطاء التي تم تسجيلها في ما مضى من المأمورية، هي أن التعيينات لم تكن شفافة، ولا منسجمة مع الحرب على الفساد، وقد جاء الكثير منها مخيبا لآمالكم. وقد انعكست تلك التعيينات على الأداء الحكومي الذي لم يكن على المستوى المطلوب، وهذا ما يجب الاعتراف به. ولتحسين الأداء الحكومي، وانسجاما مع الحرب على الفساد المعلنة، فإني أعدكم بأن التعيينات ابتداء من اليوم، ستعتمد أولا وأخيرا على الكفاءة، وعلى الكفاءة وحدها، والتي سنبحث عنها في كل مكان، ولا يهمنا بعد ذلك الانتماء السياسي، أو الجهوي، أو القبلي، أو العرقي، لصاحب تلك الكفاءة. كما أعدكم هنا بأنني سأعمل ـ وبشكل فوري ـ على إبعاد كل رموز الفساد الذين تم تعيينهم في مناصب هامة.
4 ـ لقد لاحظت أن الإدارة لا زالت تتعامل بكثير من الاستعلاء والخشونة مع المواطنين، كما لاحظت أن الموظفين لا زالوا يمنون على المواطنين بأي خدمة إدارية يقدمونها لهم، حتى ولو كانت بسيطة وتافهة. إن هذه النظرة الخاطئة لابد من العمل الجاد على تغييرها، حتى يعلم الوزراء وكل الموظفين أنهم في خدمة هذا الشعب، وأنهم يتلقون رواتب من ثروته، وهو ما يفرض عليهم تغيير أسلوب تعاملهم مع المواطن.
5 ـ لقد تم تسجيل بعض التجاوزات في منح بعض الصفقات العمومية، ولم يتم احترام الشفافية في العديد من تلك الصفقات. وهذا يستدعي مني أن ألتزم لكم بأن تلك الأخطاء لن تتكرر مستقبلا. كما ألتزم لكم بأنه سيتم كشف كل مناقصة على حدة، وتقديم التبريرات التي أدت إلى منحها للجهة المستفيدة.
6 ـ أما فيما يخص مكافحة الفقر، والتشغيل، والحد من الآثار السلبية لارتفاع الأسعار، فإني أعدكم بأنه سيتم اتخاذ بعض الإجراءات الثورية، في وقت قريب، للحد من البطالة، ومن الفقر، ومن الانعكاسات السلبية لارتفاع الأسعار. وهذه الإجراءات لن أحدثكم عنها الآن، بل أني سأتركها تتحدث عن نفسها في وقت قريب.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
إن لكل بلد خصوصياته، ولبلدنا خصوصيته التي يجب علينا جميعا أن نعيها، قبل اتخاذ أي قرار قد تكون له آثار خطيرة على استقرار وطننا الغالي.
وهذه المسؤولية تقع أولا على عاتق رئيس الجمهورية، الذي يجب عليه أن يعمل بجد لتوفير حياة كريمة ولائقة، لكل مواطن. وهذا ما أعدكم بأني سأسعى إليه بشكل جدي فيما تبقى من مأموريتي. وأعدكم أيضا بأني سأعمل جاهدا لكي يشعر كل واحد منكم، بأني أسعى فعلا لتصحيح كل الأخطاء، التي حدثت في الثمانية عشر شهرا التي مضت من مأموريتي.كما أعدكم بأني سأفتح قنوات جديدة للاتصال بكم، وذلك لكي أظل دائما على الإطلاع بهمومكم ومشاكلكم، و لن أعتمد بعد اليوم على التقارير التي تصلني للإطلاع على همومكم ومشاكلكم.
وفقنا الله جميعا لما فيه مصلحة موريتانيا..
تصبحون على إصلاحات جدية..
كتبه باسم رئيس الجمهورية :
محمد الأمين ولد الفاظل
أيتها المواطنات..
لقد قررت أن أتقدم إليكم بخطاب مصارحة ومكاشفة، في هذا الظرف العصيب الذي تشهد فيه بعض الدول الشقيقة تحولات عميقة، والذي يشهد ـ كذلك ـ على الصعيد العالمي ارتفاعا مذهلا لأسعار بعض المواد الأساسية، وهو الارتفاع الذي انعكست آثاره سلبا على كل دول العالم بما فيها وطننا الغالي.
في مثل هذا الظرف العصيب، كان لزاما عليَّ أن أتقدم إليكم بخطاب من القلب، لن أحدثكم فيه عن الانجازات الهامة التي تم تحقيقها منذ قدومي إلى السلطة، والتي هي معروفة لديكم، وقد تم الحديث عنها في مناسبات سابقة. بل أني سأحدثكم في خطاب المكاشفة هذا عن بعض الإخفاقات التي حدثت منذ التنصيب إلى يومنا هذا، على أساس أنه لا يوجد عمل بشري بلا أخطاء وبلا نواقص، لذلك فقد كان من الضروري، وبعد مرور عام ونصف من مأموريتي، أن أبحث عن الأخطاء والإخفاقات التي حدثت، وأن أسعى بشكل جاد وصادق لمعالجتها ولتجاوزها.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
اسمحوا لي قبل أن أحدثكم عن الأخطاء التي حدثت، وعن الأساليب الجديدة التي سأتبعها لتصحيح تلك الأخطاء، اسمحوا لي قبل ذلك، أن أحدثكم قليلا عن الأحداث التي عرفتها تونس ومصر في الآونة الأخيرة، وذلك للرد على بعض التعليقات والتصريحات التي جاءت من بعض قيادات المعارضة، والتي حاولت أن تجعل من ظروفنا وواقعنا صورة طبق الأصل من واقع الشقيقة تونس، والشقيقة مصر.
والحقيقة التي لابد من قولها هنا، هي أن واقعنا ليس مطابقا تماما للواقع التونسي، و لا للواقع المصري، وأقصى ما يمكن قوله في هذا المجال، هو أنه يتشابه معهما في بعض الجوانب، ويختلف عنهما في جوانب أخرى.
فإذا كانت تونس ومصر قد عرفتا أنظمة حكم لم تتغير لمدة عقود من الزمن، فإن الأمر يختلف عندنا، خاصة منذ تصحيح 3 من أغسطس 2005، حيث أصبحت مشكلتنا منذ ذلك الوقت هي قصر الفترة التي يقضيها الرؤساء في الحكم، لا طولها.
وإذا كان الشعب التونسي والشعب المصري قد ثارا ضد رئيسين وصلا إلى الحكم واستمرا فيه دون انتخابات شفافة، فالأمر عندنا يختلف، لأننا شهدنا انتخابات رئاسية شفافة، بشهادة الجميع، أشرف عليها وزير داخلية معارض، ورئيس لجنة مستقلة للانتخابات معارض كذلك.
ورغم ذلك، فنحن لابد لنا أن نعترف بأن الشعب الموريتاني قد عرف أسلوبا واحدا من الحكم، يعتمد على أن الشعب في خدمة الحاكم، لا الحاكم في خدمة الشعب، وهو الأسلوب الذي لم يتغير منذ عقود من الزمن، رغم التغيرات الكثيرة للرؤساء، لذلك فهو من هذه الناحية يتشابه تماما مع تونس ومصر. ومن حق شعبنا الذي يستحق حياة كريمة، أن يثور على أي رئيس يكرر نفس الأسلوب البائد، في إدارة شؤون البلاد، حتى ولو لم يقض مدة طويلة في الحكم. هذا ما "تفهمه وتعيه" قيادتكم الوطنية، وهذا هو ما فرض علينا العمل بأسلوب مختلف عن نمط الحكم، الذي اتبعه كل الرؤساء السابقين، والذي أدى في المحصلة النهائية إلى هذا الواقع المرير الذي نعيشه اليوم.
بل إنني فوق ذلك، أومن بأن الشعب الموريتاني أولى من غيره بالحياة الكريمة، وأولى من غيره بالثورة، إذا لم يشعر بأن أوضاعه قد بدأت تتحسن بالفعل، وذلك نظرا لأن ثرواته أكثر بكثير من ثروات العديد من أشقائه، ولأنه أقل عددا من شعوب تلك الدول، ولأنه من حيث مؤشرات التنمية، لا زال ـ "ويا للأسف"ـ في أسفل اللائحة، ولا زالت تتقدم عليه تلك الدول الشقيقة التي شهدت احتجاجات.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
لا أخفيكم ـ في خطاب المكاشفة هذا ـ بأني لا أجد فرقا يذكر بين الاتحاد من أجل الجمهورية، والحزب الوطني في مصر، أو حزب التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس. فالاتحاد من أجل الجمهورية ـ "ويا للأسف"ـ لم يقدم انجازا واحدا منذ تأسيسه، بل أنه ظل يشكل عبئا ثقيلا على مؤسسة الرئاسة، ومحرجا لها في كثير من الأحيان.
وأنا على ثقة تامة، بأن هذا الحزب لن ينفعني، إذا ما احتجت إليه في الأوقات العصيبة. بل أنه قد يضرني من حيث يعتقد أنه سينفعني، وقد يُخرج في اللحظات الحاسمة، ما هو أسوأ من الحمير والبغال والجمال.
لقد أثبتت أحداث تونس ومصر بأن الأحزاب التقليدية لم تعد قادرة على حماية نفسها، ولا حماية أي نظام. كما أثبتت تلك الأحداث بأن الشعوب، والتي قد لا تكون منتظمة بالضرورة في أحزاب سياسية، هي وحدها التي يمكن أن تسقط أي نظام، وهي وحدها التي يمكن أن تحميه.
وبناء على ذلك، فإني أتوجه اليوم إليكم بهذا الخطاب، الذي سيؤسس ـ بإذن الله ـ لمرحلة جديدة من العمل الحكومي والسياسي، وهي مرحلة ستسعي ـ بشكل جاد ـ لبناء جسور جديدة وقوية، من الثقة بيني وبينكم، ودون الحاجة لوسطاء سياسيين. لقد تعاملت معكم بدون وسطاء في الحملة الانتخابية الماضية، ولم تخيبوا وقتها ثقتي فيكم، فصوتم لي بكثافة، مما جعل فوزي في الانتخابات الرئاسية الماضية، لا منة فيه لأي وسيط سياسي أو اجتماعي، فالفضل فيه للمواطن العادي، وللمواطن العادي وحده، لذلك فأنا أستطيع أن أقول بأني لست مدينا إلا لك أنت أيها المواطن الموريتاني.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
لا جدال في أن ما مضى من مأموريتي، قد تخللته بعض الأخطاء والإخفاقات التي سيتم تفاديها من الآن، ومن هذه الأخطاء يمكن لي أن أذكرك لكم:
1 ـ الارتجالية في اتخاذ بعض القرارات الهامة، وهو ما جعل الكثير منكم يستغرب بعض القرارات التي تم اتخاذها وإلغاؤها دون تقديم أي تفسير لذلك. لقد حدث ذلك مع إنشاء وإلغاء كتابة الدولة للشؤون الإفريقية، ومع هيكلة وزارة التعليم، وفي مجالات عديدة أخرى لا يتسع المقام لتعدادها. فمن حقكم أن تستغربوا ذلك، وأن تنتقدوه، لأنه لم يعد من المقبول في عالم اليوم ارتجال القرارات، حتى ولو كانت مجرد قرارات فردية، أو أسرية، أو قرارات داخل مؤسسة صغيرة. فكيف إذا تعلق الأمر بقرارات حكومية، يمكن لها أن تؤثر إيجابا أو سلبا على حياة كل مواطن؟ لذلك فإني أعدكم بأنه لن يُرتجل ـ من الآن وصاعداـ أي قرار مهما كان حجمه. كما أعتذر لكم عن الارتجال في بعض التعيينات، والذي بلغ ذروته في وزارة المالية والإدارات التابعة لها، حيث أنها منذ تنصيبي لم تعرف أي استقرار يتيح لها أن تؤدي أبسط مهامها.
2 ـ لا شك أنكم قد لاحظتم في بعض الأحيان عدم انسجام في العمل الحكومي، ولا شك أنكم لاحظتم عدم الانسجام كذلك في بعض القرارات، وهو ما أعدكم بأنه سيتوقف تماما من الآن. فلم يعد من المقبول أن يدعو رئيس الجمهورية إلى حوار مع المعارضة، فتعقب تلك الدعوة بيانات وتصريحات من الأغلبية تتناقض مع تلك الدعوة، وتزيد من حجم الشكوك حول جديتها. كما أني أعتذر للشعب الموريتاني عن بعض التناقض في بعض القرارات التي اتخذتها، كتعيين شخصية سياسية على رأس وزارة التعليم الثانوي، رغم أني كنت قد دعوت قبل ذلك إلى عدم تسييس التعليم، وعدم تسييس المنتديات القادمة، وهي الدعوة التي لم يستجب لها ـ "ويا للأسف"ـ حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الذي اختار لجنة للتفكير في إصلاح التعليم يرأسها وزير سياسي لا صلة له بالتعليم، ومن المفترض أنه ليس لديه وقت لإنجاز ما كُلف به.
3 ـ من الأخطاء التي تم تسجيلها في ما مضى من المأمورية، هي أن التعيينات لم تكن شفافة، ولا منسجمة مع الحرب على الفساد، وقد جاء الكثير منها مخيبا لآمالكم. وقد انعكست تلك التعيينات على الأداء الحكومي الذي لم يكن على المستوى المطلوب، وهذا ما يجب الاعتراف به. ولتحسين الأداء الحكومي، وانسجاما مع الحرب على الفساد المعلنة، فإني أعدكم بأن التعيينات ابتداء من اليوم، ستعتمد أولا وأخيرا على الكفاءة، وعلى الكفاءة وحدها، والتي سنبحث عنها في كل مكان، ولا يهمنا بعد ذلك الانتماء السياسي، أو الجهوي، أو القبلي، أو العرقي، لصاحب تلك الكفاءة. كما أعدكم هنا بأنني سأعمل ـ وبشكل فوري ـ على إبعاد كل رموز الفساد الذين تم تعيينهم في مناصب هامة.
4 ـ لقد لاحظت أن الإدارة لا زالت تتعامل بكثير من الاستعلاء والخشونة مع المواطنين، كما لاحظت أن الموظفين لا زالوا يمنون على المواطنين بأي خدمة إدارية يقدمونها لهم، حتى ولو كانت بسيطة وتافهة. إن هذه النظرة الخاطئة لابد من العمل الجاد على تغييرها، حتى يعلم الوزراء وكل الموظفين أنهم في خدمة هذا الشعب، وأنهم يتلقون رواتب من ثروته، وهو ما يفرض عليهم تغيير أسلوب تعاملهم مع المواطن.
5 ـ لقد تم تسجيل بعض التجاوزات في منح بعض الصفقات العمومية، ولم يتم احترام الشفافية في العديد من تلك الصفقات. وهذا يستدعي مني أن ألتزم لكم بأن تلك الأخطاء لن تتكرر مستقبلا. كما ألتزم لكم بأنه سيتم كشف كل مناقصة على حدة، وتقديم التبريرات التي أدت إلى منحها للجهة المستفيدة.
6 ـ أما فيما يخص مكافحة الفقر، والتشغيل، والحد من الآثار السلبية لارتفاع الأسعار، فإني أعدكم بأنه سيتم اتخاذ بعض الإجراءات الثورية، في وقت قريب، للحد من البطالة، ومن الفقر، ومن الانعكاسات السلبية لارتفاع الأسعار. وهذه الإجراءات لن أحدثكم عنها الآن، بل أني سأتركها تتحدث عن نفسها في وقت قريب.
أيها المواطنون..
أيتها المواطنات..
إن لكل بلد خصوصياته، ولبلدنا خصوصيته التي يجب علينا جميعا أن نعيها، قبل اتخاذ أي قرار قد تكون له آثار خطيرة على استقرار وطننا الغالي.
وهذه المسؤولية تقع أولا على عاتق رئيس الجمهورية، الذي يجب عليه أن يعمل بجد لتوفير حياة كريمة ولائقة، لكل مواطن. وهذا ما أعدكم بأني سأسعى إليه بشكل جدي فيما تبقى من مأموريتي. وأعدكم أيضا بأني سأعمل جاهدا لكي يشعر كل واحد منكم، بأني أسعى فعلا لتصحيح كل الأخطاء، التي حدثت في الثمانية عشر شهرا التي مضت من مأموريتي.كما أعدكم بأني سأفتح قنوات جديدة للاتصال بكم، وذلك لكي أظل دائما على الإطلاع بهمومكم ومشاكلكم، و لن أعتمد بعد اليوم على التقارير التي تصلني للإطلاع على همومكم ومشاكلكم.
وفقنا الله جميعا لما فيه مصلحة موريتانيا..
تصبحون على إصلاحات جدية..
كتبه باسم رئيس الجمهورية :
محمد الأمين ولد الفاظل
الاثنين، 7 فبراير 2011
في انتظار ثورة ثالثة
لم يكن من المتخيل أن تتحول أحداث بسيطة ـ لا تلفت الانتباه عادة ـ إلى احتجاجات و انتفاضات وثورات عظيمة، تعجز النخب السياسية التقليدية أن تلتحق بصفوفها الخلفية حتى ولو لهثت كثيرا، ويفشل أولو الألباب في فك طلاسمها، ولا يستطيع المحللون والصحفيون كشف كل تفاصيلها.
فلم يكن من المتخيل أن يتمكن بائع خضار من طرد دكتاتور تونس إلى مدينة يرتفع من مساجدها نداءات المؤذنين، التي تقض مضجع الدكتاتور التونسي الهارب. ولقد اعتبر أحد معلقي الجزيرة مباشر أن الإقامة الجبرية في مدينة تكثر فيها المساجد، هي أفضل طريقة لمعاقبة الدكتاتور الهارب.
ولم يكن من المتخيل ـ كذلك ـ أن تتحول دعوة للاحتجاج أطلقتها الفتاة "أسماء محفوظ" واختارت لها يوم عيد الشرطة المصرية، لم يكن من المتخيل أن تتحول تلك الدعوة إلى ثورة عارمة في مصر، أجبرت دكتاتورها للبحث بشكل جاد عن طريقة لرحيل "كريم".
ومن يدري فربما نشهد في الأيام القادمة، أو في الساعات القادمة، أو ربما في الدقائق القادمة، تحول حدث بسيط ما، في دولة عربية ما، إلى ثورة عارمة تسقط دكتاتورا عربيا ما، ربما نشهد ذلك قريبا، ولكن قبل ذلك دعونا نسجل بعض الملاحظات عن الثورتين المباركتين، وذلك في انتظار اشتعال ثورة مباركة ثالثة.
الملاحظة الأولى: هذه الثورات جاءت بأفكار إبداعية لإحداث التغيير، وتم تنفيذها بوسائل وأساليب إبداعية أيضا، طبقا للمقولة الشهيرة: " إن الأفكار الإبداعية يجب أن لا تمر بالقنوات التقليدية". فالقنوات التقليدية، أي النخب السياسية التقليدية، قد فشلت في إحداث تغيير في البلدان العربية، لذلك فقد كان لابد من إبعادها عن الصفوف الأمامية، لضمان نجاح الثورات الجديدة. لقد نجحت هذه الثورات لأنها لم يقدها "المناضلون التقليديون" الذين لا زالوا يفكرون بطرق تقليدية، لم تعد تناسب هذا العصر. بل أن هذه النخب عجزت ـ لكثرة خلافاتها وصراعاتها، وانشغالها بالتفاهات ـ أن تشكل صفوفا خلفية متماسكة لهذه الثورات الجديدة. لقد رفضت كل الأحزاب المعارضة في مصر، باستثناء حزب معارض واحد، الاستجابة للدعوة للاحتجاج يوم 25 يناير. ولقد برر الحزب الناصري رفضه لتلك الدعوة لكونه حزبا يقود ولا يقاد، أما حركة الإخوان المسلمين فقد رفضت الاستجابة في البداية، قبل أن تقرر بعد ذلك المشاركة بشكل رمزي. في حين أن حزب الوفد كان "أعقل"ـ حسب بعض قادته ـ من أن يستجيب لدعوة شبابية "طائشة"، تبين فيما بعد أنها لم تكن طائشة، وأن الشباب"الطائش" الذي أطلقها كان أعقل من الجميع، وأحق من الجميع بقيادة الشعوب.
الملاحظة الثانية: يمتاز قادة هذه الثورات بقدرة عجيبة على اتخاذ القرارات السريعة والصائبة في نفس الوقت. فالشباب المصري استقبل الجيش بالورود، كما استقبل الشباب التونسي جيشه بالقبلات. ولقد كان لتلك الاستقبالات مفعول حاسم في اكتساب الجيش، أو ـ على الأقل ـ في تحييده. ولو أن الأمر حدث مع النخب السياسية التقليدية لكانت ردود الفعل سلبية، أو بطيئة في أحسن الأحوال، مما كان سينعكس سلبا على تلك الاحتجاجات. وتظهر كذلك قدرة الثوار الجدد في اتخاذ القرارات الصائبة والسريعة، في الطريقة الرائعة، التي تم بها تشكيل مجموعات لتوفير الأمن، بعد أن تحول من كان من المفترض فيه أن يوفر الأمن إلى أكبر مهدد للأمن والسكينة.
الملاحظة الثالثة: لقد أثبت المناضلون الجدد قدرة كبيرة على التأقلم مع كل الظروف والمفاجآت. فمن اللافت أن الشباب الثائر لم يتأثر سلبا عندما تم حرمانه من أهم أسلحته، أي الانترنت والهاتف النقال. فالتونسيون استطاعوا أن يتعاملوا بذكاء مع الرقيب الالكتروني الذي أطلقوا عليه "عمار 404". في حين أن الشباب المصري تمكن من تنظيم "جمعة الغضب" التي شاركت فيها أعداد غير مسبوقة، في ظل غياب كامل لكل وسائل الاتصال الحديثة من انترنت وهاتف نقال. بل أن شباب الفيس بوك كما يحلو للبعض تسميته بذلك، نجح في الدفاع عن نفسه، عندما حُورب بأسلحة بدائية جدا، وتمكن من أسر بعض "الغزاة" خلال صده لهجوم غريب ومفاجئ استخدمت فيه كل أسلحة القرون الوسطى من خيل وجمال وبغال وسكاكين وبلطجية ..
الملاحظة الرابعة: لقد استطاع هذا الشباب الرائع أن يفند الكثير من النظريات التقليدية الخائبة، التي ابتكرها المستبدون بالتمالؤ مع بعض النخب السياسية التقليدية، والتي تحسب على أنها معارضة. فقد شاع لدى الشعوب العربية أن الاحتجاج ضد الفساد والدكتاتورية قد يأتي بنتائج عكسية، لأنه قد يستغل في إحداث فتن، وصراعات طائفية، أو عرقية، تؤدي في النهاية إلى الكثير من الفوضى وعدم الاستقرار. والحقيقة أن أكثر ما يهدد استقرار الشعوب هو الدكتاتورية، والفساد، وغياب الحرية، والعدالة الاجتماعية. ويكفي لتفنيد تلك النظرية الخائبة أن نتأمل حال مصر قبل 25 يناير، وحالها بعده. فقبل 25 يناير كثرت الدعوات التي كانت تهدف لإحداث شرخ بين الأقباط والمسلمين. أما بعد 25 يناير فقد اختفت تلك الدعوات، وتم استبدالها بصور راقية جاءت من ميدان التحرير، حيث شُوهد القبطي وهو يحرس المسلم أثناء صلاة الجمعة، بل أن بعض الأقباط كان يرفع صوته بالتكبير، وذلك لكي يسمع صفوف المصلين الخلفية تكبيرات الإمام. وفي يوم الأحد، وفي نفس الميدان، أقام الأقباط قداس الأحد، وصلى المسلمون صلاة الغائب، على أرواح شهداء الثورة.
الملاحظة الخامسة: لقد استطاعت هذه الثورات المباركة أن تستعيد بعض القيم التي كادت الشعوب أن تنساها، فظهر التكافل والتضامن والتضحية والإيثار بين المواطنين. ولم يعد بالإمكان اختزال الوطنية في لحظة حماس أثناء مبارايات كروية، بل أنه أصبح من الممكن للمواطنين أن يعبروا عن وطنيتهم بصور أخرى أكثر تحضرا، و أكثر أهمية، من خلال المشاركة ـ كل حسب امكاناته ـ في عملية التغيير والبناء، والتي انطلقت شرارتها من ميدان التحرير.
الملاحظة السادسة : أثبت هؤلاء الشباب قدرة فائقة على الإقناع، حيث استطاعوا وفي وقت قياسي أن يجمعوا حولهم المثقف والأمي، الغني والفقير، الطفل والشيخ، الرجل والمرأة ، الشاب والشابة، السياسي وغير السياسي. كما أثبتوا قدرة فائقة على التماسك والتلاحم حول فكرة واحدة، عكس ما كان يحدث في صفوف النخب التقليدية التي لم تكن تتحالف إلا من أجل أن تنشق، وتنشطر، وتنقسم شظايا شظايا لا يكاد بعضها يرى بالعين المجردة.
وأعتقد أن القدرة على الإقناع والتماسك، إنما جاءت من قناعة الشباب أنفسهم بمطالبهم الوجيهة، وبصدقهم فيما يقومون به نضال من أجل الوطن، لا من أجل مصالح شخصية، أو حزبية، أو سياسية، أو إيدولوجية، أو طائفية، أو عرقية. وهنا يكمن سر التفاف الناس حولهم، وهذا بالضبط هو ما يميزهم عن النخب السياسية التقليدية، التي كان أغلبها يضع المصالح الشخصية، أو الحزبية، أو الطائفية، فوق المصلحة الوطنية.
تصبحون على ثورة ثالثة..