تم الإعلان بعد الأيام التشاورية عن إطلاق حملة انتساب للحزب الحاكم، وقد
تم اختيار أسوأ توقيت للإعلان عن إطلاق هذه الحملة، ولكي يبلغ الاستفزاز مداه فقد
كًلِّف الوزراء وكبار الموظفين بالتحسيس لهذه الحملة.
لا أحد من المهتمين بالشأن العام يستطيع أن يقرأ بشكل جازم رسائل حملة الانتساب هذه، ولا ماذا
يُراد أصلا من فكرة تشكيل لجنة لتطوير أضعف حزب حاكم في تاريخ البلاد، ويمكنكم في
هذا الإطار أن تحدثونني عن كل شيء إلا عن شيء واحد: وهو أن المقصود بالفعل هو
إصلاح الحزب الحاكم. لا أحد من المهتمين بالشأن العام يستطيع أن يقرأ أو يفسر التصرفات
والقرارات التي يتخذها الرئيس محمد ولد عبد العزيز في هذه الفترة الحرجة والمربكة
من مأموريته الثانية، ولا أحد منهم يستطيع أن يًخضع تلك التصرفات لمنطق معين أو
لخيط تحليلي ناظم يجمع بينها، وقد يكون سبب ذلك هو الارتباك الذي يعيشه الرئيس في
آخر عام من مأموريته الثانية، وقد يكون السبب في أن هذا التخبط يأتي في إطار خطة يعتمدها الرئيس في إدارة
الأمور في هذه المرحلة الحرجة، وتقتضي هذه الخطة بأن يتصرف الرئيس بعيدا عن أي
منطق حتى يربك معارضته، فالمعارضة التي تعودت في إدارة صراعها مع النظام الحاكم
على ردود الأفعال، سترتبك حتما إن لم تفهم ما يُراد بالأفعال والتصرفات والقرارات
التي يتخذها الرئيس في هذه الفترة الحرجة من مأموريته الثانية.
ومهما تكن طبيعة هذه التصرفات والأفعال والقرارات الغامضة التي يتخذها
الرئيس من حين لآخر، وسواء كانت تلك التصرفات قد جاءت نتيجة لارتباك شديد يعيشه
الرئيس، وذلك هو غالب الظن، أو أنها جاءت في إطار خطة ذكية لإرباك الخصم، وتلك
فرضية لا يمكن استبعادها بشكل كامل. فمهما كانت طبيعة تلك التصرفات فإن الشيء الذي
يمكن الخروج به على المستوى التحليلي هو أن حملة الانتساب هذه ستترك عددا من
الرسائل المستفزة في صناديق بريد مختلفة (الموالاة، المعارضة، المواطن العادي)، ورغم
أهمية تلك الرسائل الموجهة للموالاة والمعارضة، إلا أننا في هذا المقام سنتوقف فقط
مع تلك الرسائل التي وضعت في صندوق بريد المواطن العادي.
تقول تلك الرسائل الموجهة بالبريد السريع والمضمون إلى صندوق بريد المواطن
العادي، تقول بلغتها الصريحة والمستفزة جدا، بأن الرئيس غير مكترث بهموم المواطن ولا
بمعاناته، وبأنه بدلا من إعطاء الأوامر بضرورة تكثيف العمل الحكومي من أجل مواجهة
الجفاف والبطالة والفساد وارتفاع الأسعار والانفلات الأمني وانهيار الصحة والتعليم،
بدلا من كل ذلك، فقد قرر الرئيس أن يعطي الأوامر للحكومة ولكبار موظفيه بالتفرغ في
هذا الوقت العصيب لأنشطة الحزب الحاكم من أيام تشاورية إلى المؤتمر المنتظر، مرورا
بحملات الانتساب الجارية حاليا.
لا خلاف على أن الحكومة لم تكن مهتمة أصلا بهموم المواطن، ولكن كان في
التظاهر بالانشغال بتلك الهموم، والتعامل المسرحي معها، ما يوحي بأن هناك حدا أدنى
من احترام المواطن، ولكن أن تخرج الحكومة عن بكرة أبيها ـ وفي مثل هذا الوقت
العصيب ـ في مهام حزبية من المفترض بأنها لا تعني إلا طائفة من الشعب الموريتاني
منخرطة في الحزب الحاكم، فإن مثل ذلك يعني بأن مستوى احتقار المواطن قد بلغ مداه.
إن تفرغ الحكومة لمهام حزبية في مثل هذا الوقت العصيب ليعني بأن هذه
الحكومة قد أرادت أن تقول للمواطن الموريتاني بلسان الحال، وكان على الناطق الرسمي
باسمها أن يقول ذلك بلسان المقال:
ـ أيها المواطن في ولاياتنا الداخلية إننا نعلم بأنك في حاجة ماسة إلى
توفير علف لماشيتك في عام الجفاف هذا، ولكننا بدلا من توفير العلف فإننا سنطلب منك
ـ وبكل استفزازـ أن تنتسب للحزب الحاكم!
ـ أيها المواطن في ولاياتنا الداخلية إننا نعلم بأنك تعاني من عطش شديد
في شرق البلاد وغربها، في شمالها وجنوبها، ولكننا بدلا من توفير الماء في هذا
الصيف الحار، فإننا سنطلب منك ـ وبكل استفزاز ـ بأن تنتسب للحزب الحاكم!
ـ أيها المواطن في ولاياتنا الداخلية إننا نعلم بأنك تعاني من ارتفاع
الأسعار وغلاء المعيشة في شرق البلاد وغربها، في شمالها وجنوبها، ولكننا بدلا من العمل
على تخفيف أعباء المعيشة عن كاهلك في هذا العام العصيب، فإننا سنثقل كاهلك بالديون
( نصيب المواطن الموريتاني من الديون يقترب من نصف مليون أوقية بالعد القديم)،
وسنزيد عليك الضرائب، وبالإضافة إلى كل
ذلك فسنرسل إليك ضيوفا ثقلاء لنرهقك بضيافتهم، دون أن ننسى أن نطلب منك من بعد ذلك
كله بأن تنتسب للحزب الحاكم!
ـ أيها المواطن في العاصمة نواكشوط إننا نعلم بأنك تعاني من انفلات أمني
مخيف ومن انتشار غير مسبوق للقمامة، وإننا نعلم بأن توفير الأمن وتنظيف العاصمة ستبقى
أولوية من أولوياتك..إننا نعلم ذلك كله، ولكننا بدلا من تنظيف العاصمة أو توفير
الأمن فيها، فإننا سنطلب منك ـ وبكل
استفزازـ بأن تنتسب للحزب الحاكم!
ـ أيها الشاب العاطل عن العمل إننا لن نوفر لك فرصة عمل، وسنترك البطالة
تفعل أفاعيلها بك..إننا لن نهتم بمعاناتك، ولكننا في المقابل سنطلب منك ـ وبكل استفزاز
ـ بأن تنتسب إلى الحزب الحاكم!
ـ أيها الطالب الجامعي إذا كنت قد خرجت في مظاهرات سلمية طلبا للمنحة،
فاعلم بأننا لن نوفر لك منحة، لن نوفر لك إلا العصي ومسيلات الدموع والسجن، وسنطلب
منك بعد ذلك كله ـ وبكل استفزاز ـ بأن تنتسب للحزب الحاكم!
ـ أيها المواطن سنقولها لك بلغة صريحة وفصيحة: إننا في الحكومة لا تهمنا مشاكلك،
ونحن لسنا معنيين أصلا بغلاء المعيشة، ولا بالجفاف، ولا بالبطالة، ولا بالانفلات
الأمني، ولا بانتشار القمامة، ولا بانهيار التعليم، ولا بتردي الخدمات الصحية..نحن
يهمنا فقط أن تنتسب للحزب الحاكم!
لو كان المواطن الموريتاني يعي حقوقه كاملة، ولو أنه كان ممن ينتصر
لكرامته لاستقبل وفود الحكومة باحتجاجات قوية تطالب بتوفير الماء والعلف والتشغيل
والصحة والتعليم والأمن، ولقال للوزراء ردا على طلباتهم الاستفزازية بأن توفير
الماء والعلف والتشغيل والصحة والتعليم والأمن أولى من الانتساب للحزب الحاكم.
ولكن، ولأن المواطن الموريتاني لن يحتج، ولن يقول ذلك، فإنه ليس لنا إلا أن نقول
لهذا المواطن: كان الله في عونك في هذا العام العصيب الذي اجتمع فيه الجفاف والعطش
والغلاء والانفلات الأمني مع حملة الانتساب للحزب الحاكم!
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق