الاثنين، 7 فبراير 2011

في انتظار ثورة ثالثة



لم يكن من المتخيل أن تتحول أحداث بسيطة ـ لا تلفت الانتباه عادة ـ إلى احتجاجات و انتفاضات وثورات عظيمة، تعجز النخب السياسية التقليدية أن تلتحق بصفوفها الخلفية حتى ولو لهثت كثيرا، ويفشل أولو الألباب في فك طلاسمها، ولا يستطيع المحللون والصحفيون كشف كل تفاصيلها.
فلم يكن من المتخيل أن يتمكن بائع خضار من طرد دكتاتور تونس إلى مدينة يرتفع من مساجدها نداءات المؤذنين، التي تقض مضجع الدكتاتور التونسي الهارب. ولقد اعتبر أحد معلقي الجزيرة مباشر أن الإقامة الجبرية في مدينة تكثر فيها المساجد، هي أفضل طريقة لمعاقبة الدكتاتور الهارب.
ولم يكن من المتخيل ـ كذلك ـ أن تتحول دعوة للاحتجاج أطلقتها الفتاة "أسماء محفوظ" واختارت لها يوم عيد الشرطة المصرية، لم يكن من المتخيل أن تتحول تلك الدعوة إلى ثورة عارمة في مصر، أجبرت دكتاتورها للبحث بشكل جاد عن طريقة لرحيل "كريم".
ومن يدري فربما نشهد في الأيام القادمة، أو في الساعات القادمة، أو ربما في الدقائق القادمة، تحول حدث بسيط ما، في دولة عربية ما، إلى ثورة عارمة تسقط دكتاتورا عربيا ما، ربما نشهد ذلك قريبا، ولكن قبل ذلك دعونا نسجل بعض الملاحظات عن الثورتين المباركتين، وذلك في انتظار اشتعال ثورة مباركة ثالثة.
الملاحظة الأولى: هذه الثورات جاءت بأفكار إبداعية لإحداث التغيير، وتم تنفيذها بوسائل وأساليب إبداعية أيضا، طبقا للمقولة الشهيرة: " إن الأفكار الإبداعية يجب أن لا تمر بالقنوات التقليدية". فالقنوات التقليدية، أي النخب السياسية التقليدية، قد فشلت في إحداث تغيير في البلدان العربية، لذلك فقد كان لابد من إبعادها عن الصفوف الأمامية، لضمان نجاح الثورات الجديدة. لقد نجحت هذه الثورات لأنها لم يقدها "المناضلون التقليديون" الذين لا زالوا يفكرون بطرق تقليدية، لم تعد تناسب هذا العصر. بل أن هذه النخب عجزت ـ لكثرة خلافاتها وصراعاتها، وانشغالها بالتفاهات ـ أن تشكل صفوفا خلفية متماسكة لهذه الثورات الجديدة. لقد رفضت كل الأحزاب المعارضة في مصر، باستثناء حزب معارض واحد، الاستجابة للدعوة للاحتجاج يوم 25 يناير. ولقد برر الحزب الناصري رفضه لتلك الدعوة لكونه حزبا يقود ولا يقاد، أما حركة الإخوان المسلمين فقد رفضت الاستجابة في البداية، قبل أن تقرر بعد ذلك المشاركة بشكل رمزي. في حين أن حزب الوفد كان "أعقل"ـ حسب بعض قادته ـ من أن يستجيب لدعوة شبابية "طائشة"، تبين فيما بعد أنها لم تكن طائشة، وأن الشباب"الطائش" الذي أطلقها كان أعقل من الجميع، وأحق من الجميع بقيادة الشعوب.
الملاحظة الثانية: يمتاز قادة هذه الثورات بقدرة عجيبة على اتخاذ القرارات السريعة والصائبة في نفس الوقت. فالشباب المصري استقبل الجيش بالورود، كما استقبل الشباب التونسي جيشه بالقبلات. ولقد كان لتلك الاستقبالات مفعول حاسم في اكتساب الجيش، أو ـ على الأقل ـ في تحييده. ولو أن الأمر حدث مع النخب السياسية التقليدية لكانت ردود الفعل سلبية، أو بطيئة في أحسن الأحوال، مما كان سينعكس سلبا على تلك الاحتجاجات. وتظهر كذلك قدرة الثوار الجدد في اتخاذ القرارات الصائبة والسريعة، في الطريقة الرائعة، التي تم بها تشكيل مجموعات لتوفير الأمن، بعد أن تحول من كان من المفترض فيه أن يوفر الأمن إلى أكبر مهدد للأمن والسكينة.
الملاحظة الثالثة: لقد أثبت المناضلون الجدد قدرة كبيرة على التأقلم مع كل الظروف والمفاجآت. فمن اللافت أن الشباب الثائر لم يتأثر سلبا عندما تم حرمانه من أهم أسلحته، أي الانترنت والهاتف النقال. فالتونسيون استطاعوا أن يتعاملوا بذكاء مع الرقيب الالكتروني الذي أطلقوا عليه "عمار 404". في حين أن الشباب المصري تمكن من تنظيم "جمعة الغضب" التي شاركت فيها أعداد غير مسبوقة، في ظل غياب كامل لكل وسائل الاتصال الحديثة من انترنت وهاتف نقال. بل أن شباب الفيس بوك كما يحلو للبعض تسميته بذلك، نجح في الدفاع عن نفسه، عندما حُورب بأسلحة بدائية جدا، وتمكن من أسر بعض "الغزاة" خلال صده لهجوم غريب ومفاجئ استخدمت فيه كل أسلحة القرون الوسطى من خيل وجمال وبغال وسكاكين وبلطجية ..
الملاحظة الرابعة: لقد استطاع هذا الشباب الرائع أن يفند الكثير من النظريات التقليدية الخائبة، التي ابتكرها المستبدون بالتمالؤ مع بعض النخب السياسية التقليدية، والتي تحسب على أنها معارضة. فقد شاع لدى الشعوب العربية أن الاحتجاج ضد الفساد والدكتاتورية قد يأتي بنتائج عكسية، لأنه قد يستغل في إحداث فتن، وصراعات طائفية، أو عرقية، تؤدي في النهاية إلى الكثير من الفوضى وعدم الاستقرار. والحقيقة أن أكثر ما يهدد استقرار الشعوب هو الدكتاتورية، والفساد، وغياب الحرية، والعدالة الاجتماعية. ويكفي لتفنيد تلك النظرية الخائبة أن نتأمل حال مصر قبل 25 يناير، وحالها بعده. فقبل 25 يناير كثرت الدعوات التي كانت تهدف لإحداث شرخ بين الأقباط والمسلمين. أما بعد 25 يناير فقد اختفت تلك الدعوات، وتم استبدالها بصور راقية جاءت من ميدان التحرير، حيث شُوهد القبطي وهو يحرس المسلم أثناء صلاة الجمعة، بل أن بعض الأقباط كان يرفع صوته بالتكبير، وذلك لكي يسمع صفوف المصلين الخلفية تكبيرات الإمام. وفي يوم الأحد، وفي نفس الميدان، أقام الأقباط قداس الأحد، وصلى المسلمون صلاة الغائب، على أرواح شهداء الثورة.
الملاحظة الخامسة: لقد استطاعت هذه الثورات المباركة أن تستعيد بعض القيم التي كادت الشعوب أن تنساها، فظهر التكافل والتضامن والتضحية والإيثار بين المواطنين. ولم يعد بالإمكان اختزال الوطنية في لحظة حماس أثناء مبارايات كروية، بل أنه أصبح من الممكن للمواطنين أن يعبروا عن وطنيتهم بصور أخرى أكثر تحضرا، و أكثر أهمية، من خلال المشاركة ـ كل حسب امكاناته ـ في عملية التغيير والبناء، والتي انطلقت شرارتها من ميدان التحرير.
الملاحظة السادسة : أثبت هؤلاء الشباب قدرة فائقة على الإقناع، حيث استطاعوا وفي وقت قياسي أن يجمعوا حولهم المثقف والأمي، الغني والفقير، الطفل والشيخ، الرجل والمرأة ، الشاب والشابة، السياسي وغير السياسي. كما أثبتوا قدرة فائقة على التماسك والتلاحم حول فكرة واحدة، عكس ما كان يحدث في صفوف النخب التقليدية التي لم تكن تتحالف إلا من أجل أن تنشق، وتنشطر، وتنقسم شظايا شظايا لا يكاد بعضها يرى بالعين المجردة.
وأعتقد أن القدرة على الإقناع والتماسك، إنما جاءت من قناعة الشباب أنفسهم بمطالبهم الوجيهة، وبصدقهم فيما يقومون به نضال من أجل الوطن، لا من أجل مصالح شخصية، أو حزبية، أو سياسية، أو إيدولوجية، أو طائفية، أو عرقية. وهنا يكمن سر التفاف الناس حولهم، وهذا بالضبط هو ما يميزهم عن النخب السياسية التقليدية، التي كان أغلبها يضع المصالح الشخصية، أو الحزبية، أو الطائفية، فوق المصلحة الوطنية.
تصبحون على ثورة ثالثة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق